المرموط: تعرف على هذا القارض الجبلي وسلوكياته الفريدة
في أحد الأيام، بينما كنت أتجوّل في إحدى المناطق الجبليّة الهادئة، شدّني صوت غريب، يشبه الصفير الحاد، صادر من بين الصخور. توقّفت لحظة، أنصتُّ، ثم رأيته... المرموط! هذا الكائن الذي قد لا يعرفه كثيرون، رغم حضوره اللافت في أماكن بعينها، وتاريخه الطويل مع الأرض، ومع البرد، ومع النوم الطويل!
المرموط، أو كما يُطلق عليه البعض "السنجاب الأرضي البدين"، هو حيوان ينتمي لعائلة القوارض، لكنه لا يُشبه الفأر أبدًا، لا في شكله، ولا في مزاجه، ولا حتى في عاداته الغريبة. هو كائن له شخصية، نعم، شخصية واضحة، فيها شيء من التأمل، وشيء آخر من التهوّر.
أين يعيش المرموط؟ وأين يختبئ؟
تخيّل أن تسير في أرض خرساء، لا صوت فيها سوى رياح تتسلّل بين الأعشاب، فجأة... هناك شيء يتحرّك بين الحصى، لا يُرى، لكن يُحَسّ... إنه المرموط. هذا الكائن لا يسكن حيث نسكن، ولا يختار لنفسه الطرق المعبّدة، بل يذهب حيث الغموض، حيث البرودة في التربة، والرطوبة في الجو، والعشب يلتف كالبساط السحري فوق الجبال.
جبال الألب؟ نعم. سفوح آسيا الوسطى؟ طبعًا. زوايا منسية من أمريكا الشمالية؟ أيضًا! هو يحبّ الأماكن التي تتنفس من بطن الأرض. لا يريد زحمة، لا يريد ضجيجًا. فقط مكان فيه حُفر. نعم، حفر... لأن الحفر عنده ليست مجرد ثقوب، بل عوالم سريّة. المرموط حفّار بالفطرة، بل هو عاشق للعمق، كأنه يُطارد شيئًا لا نعرفه في جوف الأرض.
جحره؟ لا تتوقع شيئًا بسيطًا. إنه نظام هندسي تحت الأرض. دهاليز، مخازن، منافذ هروب، أماكن للنوم، بل غرف حقيقية. وتخيل! قد تمضي سنوات وسنوات دون أن تراه. ينام. ينام كثيرًا. أو ربما يراقبك من بعيد، يختبئ خلف حجر، يطلق صفيرًا صغيرًا، ثم... لا شيء. صمت. وكأنّه لم يكن هناك أصلًا.مظهره... كائن بدين بملامح لطيفة
المرموط يبدو وكأنه خرج لتوّه من قصّة أطفال. جسده ممتليء، بطنه بارز قليلًا، وفراؤه كثيف ودافئ. ألوانه تتدرج من البني الداكن للرمادي الفاتح، وقد يظهر بألوان مختلطة، فيها لمسة من الذهبي تحت أشعة الشمس.
وجهه دائريّ نوعًا ما، وعيناه سوداوان فيهما لمعة لا يمكن تجاهلها. لكن ما يُلفت الانتباه فعلًا هو وقفته حين يشعر بالخطر: يقف منتصبًا، كعمود صغير، يلتفت يمينًا ويسارًا، ثم يطلق صفيرًا حادًا قد يفاجئك إن كنت قريبًا جدًا منه!
المرموط والنوم حكاية لا تُمل
لو كان هناك مخلوق يُتوّج ملكًا على عرش النوم الطويل... فالمرموط دون منازع هو السيّد النائم الأبدي. لا مزاح هنا. نحن لا نتحدث عن قيلولة بعد الغداء، ولا عن نوم ثقيل في ليلة باردة. بل عن طقس مقدّس، طقس البيات. المرموط لا ينام... هو يختفي.
كل شيء يبدأ بهدوء غريب. أوراق الأشجار تتساقط، نسيم الخريف يُقصّر النهار، والمرموط؟ يبدأ يتحوّل... فجأة، يأكل بجنون! يلتهم كل ما تصل إليه يده الصغيرة من أعشاب، وجذور، وثمار، كأنه يعلم أن الظلمة قادمة... وأن لا مجال للمزاح معها.
ثم، دون إعلان. دون وداع. ينسحب. يزحف إلى جحره الذي أعدّه مثل فندق خمس نجوم تحت الأرض، يلف جسده مثل قطعة قماش قديمة تبحث عن دفءٍ مفقود، ويغلق على نفسه العالم.
وهنا تبدأ المعجزة. حرارة جسمه تهبط. دقّات قلبه تصبح همسة. أنفاسه، بطيئة كأنها تائهة. لا طعام، لا صوت، لا حتى أحلام. فقط بياض شتوي يمتد... يمتد... يمتد. شهور كاملة وهو ساكن، كأنّه جزء من الأرض، قطعة من التربة نفسها.
لكن، ما إن تبدأ الشمس ترسل أول خيوط دفئها عبر سطح الجبال... حتى تسمع حركة. خفيفة. مشوّشة. ثم خرخرة صغيرة. المرموط يعود. ينفض عن نفسه الشتاء، ويبدأ من جديد. لا تذمّر، لا شكوى، فقط انطلاقة نحو الأعشاب، وكأن شيئًا لم يحدث.
ماذا يأكل هذا الكائن الظريف؟
لو مررت يومًا بجوار مرجٍ جبلي، وشاهدت كرة فرو صغيرة تنحني نحو زهرة، تشمّها بتردد، ثم تقضمها بلطف، فأنت أمام مشهد مألوف جدًا في عالم المرموط. آه، نعم... هذا الكائن اللطيف لا يأكل فقط. هو يتذوّق الحياة.
المرموط نباتي، أو لنقل: "في الغالب" نباتي. يحب أن يلتهم الأعشاب الطرية، الزهور التي تفتحت لتوّها، الجذور التي تتدلّى من التربة، أوراق النباتات التي لم تذبل بعد. يختار بعين دقيقة. لا يرمي نفسه على الطعام مثل الجائعين في الأفلام. لا. هو يتريّث. يتقدّم خطوة. يشمّ. يتراجع. ثم يعود ليقضم بهدوء. كأنه يختبر العالم بطرف أنيابه.
لكن... لا تنخدع. هناك لحظات استثنائية. لحظات من جوع مفاجئ. من اضطراب داخلي. وهنا، قد يمدّ يده إلى حشرة صغيرة مرّت بجانبه من غير قصد. ليس حبًا في الحشرات، بل لحظة ضعف! المرموط، مثل أيّ كائن حي، يعرف أن البقاء لا يُدار بالعواطف فقط.
وفي مشاهد أخرى، قد تراه يخبّئ الطعام. يحشوه داخل فمه. يركض نحو الجحر. يدفنه. ثم يعود. لا يلعب، لا يلهو، هو يخطط. المرموط ليس فقط أكولًا، بل ذكيّ. يعرف أن الشمس لن تظل مشرقة دائمًا، وأن العشب لا ينمو في عزّ الشتاء، وأن الحياة الجميلة تحتاج احتياطًا.
ما يُدهشك أكثر، أن هذا التخزين ليس عشوائيًا. لا يرمي الطعام هنا وهناك. هو يحدد، يخبّئ، يتذكر. الذاكرة عنده ليست مجرد غريزة، بل أداة بقاء. وكأن في عقله الصغير خريطة للكنوز المدفونة تحت قدميه.
أجل، قد يبدو لك المرموط مجرد حيوان لطيف بنظرة عابرة. لكن دقّق أكثر، وسترى في طعامه، وسلوكه، وحتى في لحظة قضمه لعشبة، فلسفة كاملة عن الحياة... عن الاستعداد، عن التذوق، وعن أن البساطة لا تعني أبدًا السذاجة.
العلاقات الاجتماعية عند المرموط
العلاقات عند المرموط؟ لا تتوقّعها بسيطة ولا صامتة. صحيح إنه من بعيد قد يبدو كائن هادئ، يمكن حتى تظنه متوحّد، لكن الحقيقة إن داخل عالم كامل من الإشارات، والنظام، والدراما الصامتة.
المرموط ما يحب يعيش لوحده، هو ابن الجماعة، ابن التراب والرائحة المشتركة. يسكن مع غيره في شيء يشبه الحي السكني... مستعمرة مرمّطية! لكن لا تتخيلها فوضوية، لأ، كلّ فرد له دور محدد، بحذر العارف. فيه اللي يوقف فوق الحجر، يراقب، عيونه تلمع من بعيد. وفيه اللي يحفر، يوسّع الممرات، يجهز المخابئ، كأنه مهندس تحته أرض. وفيه اللي يكون مسؤول عن النظافة، نعم، نظافة! ينظّف المدخل، يزيح الأوراق، وكأنه يرحب بالزوار الخفيين.
أما التواصل؟ يا سلام! صفير، نغزات، حركات ذيل، ارتجافات رأس. لغة معقّدة لكنها واضحة لهم، كأنها شفرة موروثة، لا تُدرّس.
المرموط ما يحب المفاجآت، المفاجأة عنده مش بس مزعجة، أحيانًا تعتبر خطر. لذلك تلاقيه دايمًا على أهبة الانتباه، أذنه تلتقط الهمسة، ورجله قريبة دومًا من باب الهروب. لكن... لو شعر إن المكان آمن، وإن الجماعة مطمئنة، تلاقيه يتحوّل فجأة! يقفز بلطافة، يصدر صوت صفير أقرب للضحك، ويلعب... يلعب كطفل نسي الهمّ، أو تجاهله عن عمد.
نعم، المرموط فيه طفولة مخفية، تطلع فجأة، ثم تختفي فجأة. وكأن الحياة عنده... لعبة خطيرة، فيها قفزات، وفيها صفير، لكن فيها دفء الجماعة قبل كل شيء.
هل المرموط مهدّد؟
بالكاد يُرى، وبالكاد يُسمع عنه، لكن وجوده... حساس جدًا! المرموط، هذا الكائن الذي يبدو وكأنه يعيش على هامش الحياة، في الحقيقة يقف في خط النار البيئي. في مناطق كثيرة، بدأ اسمه يُكتب في قوائم القلق والخطر. ليس لأنه ضعيف، بل لأن العالم من حوله صار أكثر قسوة وأقل رحمة.
المرتفعات التي كانت موطنه، بدأت تتحول إلى مشاريع، إلى طرق، إلى جدران إسمنتية باردة لا تشبه الصخور التي اعتاد عليها. الصيد العشوائي أيضًا لا يرحم، خاصة حين يأتي بدافع الفضول أو التسلية، لا الحاجة. والطقس؟ هذا الطقس المجنون لم يعد كما كان. الفصول تتبدّل بسرعة، الشتاء يطول أو يقصر بلا إنذار، والمرموط الذي يعتمد على نبض الأرض ليضبط ساعته الداخلية... صار محتارًا!
والأدهى من ذلك؟ أن البعض يراه "مؤذيًا". فقط لأنه يحفر! فقط لأنه يفتح جحرًا صغيرًا تحت التربة! لا يعلمون أن هذا الجحر نفسه يعيد تهوية الأرض، يسمح بمرور المياه، ينقل البذور، ويمنح فرصًا جديدة لنمو الحياة تحت السطح.
غياب المرموط ليس مجرّد فقدان كائن صغير. هو شرخ في نسيج الطبيعة. هو فقدان ليد خفية كانت تعمل بصمت، بتناغم، دون أن تطلب شيئًا. فهل نُدرك قيمته قبل أن تُصبح ذكراه مجرّد صورة في كتاب قديم؟
في الختام
في نهاية هذه الحكاية المتناثرة كأوراق خريفٍ قديم... لا تظنّ أن المرموط مجرّد كائن خجول، يزحف بين الصخور ويبتعد عن الأنظار! لا، هو أكبر من حجمه، وأعمق من جحره. المرموط، ببساطة، حكمة تمشي على أربع، درس من دروس الأرض كتبته الطبيعة على مهل، دون استعجال.
حين يُطل من جحره، لا يفعل ذلك عبثًا. هناك توقيت، هناك شعور غريزي، هناك إيقاع خفي لا نسمعه... لكنه يسمعه. المرموط لا يصرخ، بل يصفّر. لا يهاجم، بل يراقب. لا يُباهي، بل يختبئ. لكنه رغم كل هذا، يترك أثرًا. وكأن كل حفرة حفرها كانت توقيعًا على عقد مع التوازن البيئي.
وقد يحدث، دون أن تدري، أن تمر بجانب جحره، فلا تراه، لكنك تشعر بنظرة. شيء يراقب، يتنفس، يتأمّل. المرموط كان هناك. وسيظل هناك. كأن الطبيعة اختارته ليكون حارسًا صامتًا لأسرارها الصغيرة.
وفي هذا الزمن المجنون، حيث الصخب لا يهدأ، والضوء لا ينطفئ، والضجيج لا يستأذن، يهمس لنا المرموط برسالة خافتة: خذ وقتك. اختبئ إن أردت. نم طويلًا. لا بأس. فقط تذكّر، متى تستيقظ، وأين تجد عشبك الطازج.