السلاحف البرية والبحرية: الفرق بينهما وكيفية العناية بهما
حين ترخي السمع لقلب الأرض، وتدع عينيك تتمددان في حضن الطبيعة، لا بد أن تلمحها، تمضي في صمتٍ نبيل، تمشي كأن لا وقت يقيّدها، وكأنها تعرف ما لا نعرف. تلك الكائنات التي تحمل على ظهورها قبابًا من صلابة، أشبه ما تكون بحصون متنقلة... السلاحف.
ما أغربها من مخلوقات! ليست من السائرين بعجلة، ولا من المتقافزين في جنون. لكنها تفرض حضورها بهدوء، بجلالٍ خفي، بصبرٍ مدهش. السلحفاة، تلك التي لا تطلب شيئًا إلا مساحة صغيرة تمشي فيها، وسماءً لا تضج.
هل تساءلت؟ أعني تساءلت حقًا، لا مجرد فضول عابر! ما الفرق بين تلك التي تسكن الرمال وتلك التي تعانق الموج؟ بين البرّية التي تخدش الأرض بأقدامها الثقيلة، والبحرية التي تسبح كأنها ترقص في الأزرق الممتد؟ وهل نُحسن إليها إذا ما قررنا أن نشاركها هذه الحياة؟
تعال، دعنا نُبحر، لا على ظهر سفينة، بل فوق موجٍ من المعرفة. لنغُص سويًّا رويدًا، لا عجلة في هذا العالم العتيق. عالم السلاحف البرية والبحرية، حيث البطء لا يعني الغباء، والصمت لا يعني الفراغ، بل الحكمة، والنظام، والتاريخ الذي لا يُروى إلا للمتأملين.
السلحفاة... مَن أنتِ؟
بدايةً... من تكونين أيتها العجوز الهادئة؟ أيتها الذاهبة في دروب التاريخ ببطءٍ لا يُمل، وبخطىً من حكمةٍ لا تُفهم إلا لمن تأمّل جيدًا؟ السلحفاة! ذلك الاسم الذي إذا نُطق، تهادى في الخيال شكلٌ مهيبٌ مغطى بدرعٍ من صخرٍ صلب، يكاد يشبه قلعة مصغّرة فوق كائنٍ حيّ!
هي من الزواحف نعم، لكن لا تُشبه غيرها، لا في مشيتها، ولا في هدوئها، ولا حتى في نظرتها الجامدة التي تُخفي ما لا يُقال. قيل، وربما صدق القائلون، إنها كانت تمشي فوق الأرض في زمنٍ كانت فيه الديناصورات تصرخ وتعدو بلا هوادة، وهي هناك، تمضي بخطاها البطيئة، لا تهتم للعاصفة.
والعجيب أو لعلّه الطبيعي بالنسبة لها، أن تعيش دهورًا، نعم دهورًا! هناك من أنواعها ما يعمّر لأكثر من عمر جيلٍ، بل أجيال، تُولد وتمضي وهي ما تزال تمشي، كأن الزمن لا يستعجلها.
وإن تشابهت السلاحف من بعيد، في تقوّس صدفتها أو بطء حركتها، فإن الغوص في التفاصيل يفضي إلى انشقاقٍ واضح بين نوعين لا يلتقيان إلا في الاسم: السلاحف البرية والبحرية. فكلٌّ منهما حكاية، بل عالَمٌ قائم بذاته، له عاداته، لغته الصامتة، وطرائقه في العيش والمواجهة والصبر.
السلاحف البرية: المقيمة في اليابسة
في أرضٍ لا تعرف الزبد، ولا تبتلُّ بموجٍ متقلب، تعيش السلاحف البرية كما لو أنّها جزءٌ أصيلٌ من التراب ذاته. تحبو على الأرض لا استعجال فيها، كأنها تسمع نداءً خفيًا من عمق التربة... تمضي ببطءٍ موقّر، بين حشائشٍ ناعسة وصخورٍ اشتدّ عودها تحت الشمس.
جسدها ممتلئ بعض الشيء، لا بنعومةٍ ولا رشاقة، بل بتصميمٍ عتيقٍ محكم. قدماها؟ إن نظرت إليهما جيّدًا، بدا لك أنها استعارت بعضًا من هيئة الفيلة، لكن بحجمٍ مصغّر. لا زعانف هنا، ولا استعداد لمعارك البحر. كل شيءٍ فيها مهيّأ للبر... للمشي، للسكون، للثبات.
أما غذاؤها، فحدث ولا حرج! لا تصطاد، لا تركض خلف فريسة، بل تكتفي بما تجود به الطبيعة الأم. ورقة خسّ خضراء تلوح في النسيم، قطعة جزر تسقط عرضًا، تفاحة صغيرة تُقطف من شجرة مهملة، وربما... فقط ربما، بعض البروتينات الخفيفة في أيام الحاجة. نظامها النباتي لا يُمل، هادئ كحياتها، متزن كخطواتها.
بيئتها المفضّلة؟ لا البحر، لا الجليد. بل المناطق التي يغمرها دفء الشمس، أرضٌ صحراوية ربما، أو حقلٌ واسع فيه ظلّ وفيه شمس. الدفء رفيقها، لا تحب الرطوبة، ولا تعرف الغرق. الغريب في أمرها أو ربما الطبيعي جدًا أنّها لا تهوى الماء كالسلاحف البحرية. لا تحتاجه لتعيش، وإن كانت لا تمانع في رشّةٍ عابرة تبلّل قشرتها، أو غطسةٍ خفيفة في يوم قائظ. فقط لترطّب جلدها، لا أكثر.
ثم، لا تنسَ هذه النقطة... السلحفاة البرية مخلوق لا يحتمل الفوضى. الأصوات العالية تزعجها، والضجيج يربكها، والركض حولها يربك نبضها البطيء. تفضّل حياةً بلا منغّصات، لا مفاجآت، لا صخب. سكونٌ، ثم سكون، ثم حركة بطيئة تشبه التفكير المتأني.
السلاحف البحرية: بنات البحر وعاشقات الموج
وإذا كانت السلاحف البرية حكمة الأرض وسرّها الساكن، فإن السلاحف البحرية هي نغمة البحر القديمة... لحنٌ يعزفه الموج منذ الأزل ولا يملّ. لا تشبه البر، لا تعرف التراب، ولا تُجيد المشي، ولا تهتم به أصلًا. وجودها... هناك، في العُمق، حيث الأزرق لا ينتهي، وحيث الضوء يخفت ثم يتلاشى.
هذه الكائنات، وقد صارت واحدة مع البحر، لا تفارقه إلا في لحظةٍ واحدةٍ غريزية، حين يأتي وقت الولادة. عندها، ترتقي إلى الشاطئ، تترك نسلها في الرمال، ثم تعود كأن شيئًا لم يكن. لا تبقى طويلاً، لا تلتفت إلى الوراء. البحر يناديها.
أقدام؟ لا. بل زعانف مفرودة كأجنحةِ خفيّة، تدفعها عبر التيارات كأنها طيف يمرّ تحت السفن. كل شيء فيها يقول "سباحة". صدفتها؟ أكثر سلاسة، أقل صلابة، كأنها صنعت للانسياب لا للتصادم.
أما غذاؤها، فهو من خيرات البحر ذاته. قناديل شفّافة تهتز أمامها، طحالبٌ خضراء تنمو بصمت، كائنات دقيقة لا تُحصى... وجبة يومية من تنوعٍ بحريّ عجيب. وهي لا تأكل فحسب، بل تنتقي، بحذرٍ، برهافةِ مخلوقٍ يعرف أن التلوّث قد يكون قاتلًا.
إنها أكثر رقة، لا تحتمل الكدر، تتأذى سريعًا من تغيّرٍ في درجة الماء، أو من تسلل قطعة بلاستيك عابرة إلى جوفها... قطعة قد تبدو تافهة لنا، لكنها كفيلة بإنهاء حياتها. فهي مخلوقة لمياهٍ نظيفة، لتياراتٍ موزونة، لمنظومةٍ بيئية تعرف التوازن وتخاف اختلاله.
ولعلّها أكثر من مجرد سلحفاة. هي مرآةٌ للبحر نفسه. إن كان بخير، كانت بخير. وإن مرض، تمرّضت. وإن فسد، اختفت. فيا أيها الإنسان إن رأيت سلحفاة بحرية، لا تلمسها. لا تلتقطها. فقط انظر إليها كما تنظر إلى سرٍّ لا يُفسَّر، وكأنك تشاهد قطعة من البحر خرجت لتتنفس، ثم عادت.
الفرق بينهما؟ إنه أكثر من مجرد موطن
يَسهل أن نقع في فخّ الظن. أن نُبسّط الأمور كما يحلو للعقل الكسول، فنقول: "هذه تسكن البر، وتلك تعيش في البحر، وانتهى." لكن الحقيقة، كما هي دومًا، أكثر تشعّبًا، أكثر دهشة، وأكثر خفاءً.
أنفاسُهما لا تتشابهان. السلحفاة البرية، بنت اليابسة، تتنفّس كما نتنفّس نحن، على الأرض، بلا حاجة إلى صعود أو غوص أو حبس أنفاس. أما رفيقتها البحرية، فإنها برغم أنها كائنة مائية لا تستطيع أن تعيش غارقة إلى الأبد. عليها أن ترتقي، أن تصعد بين حين وآخر، إلى السطح، لتأخذ شهيقًا من الهواء الحقيقي، ثم تعود إلى عالمها الأزرق في صمت.
لكن ثمة ما هو أكثر وجعًا... التلوّث. إن كان للتلوث من ضحية مأساوية، فهي السلحفاة البحرية. تُضلّلها قطع البلاستيك العائمة، تراها فتظنّها طعامًا. تبتلعها، ليس جوعًا فقط، بل بخداعٍ بيئيٍّ قاسٍ. وبهذا الفعل الصغير، تبدأ رحلتها نحو موتٍ بطيء، خانق، لا يُرى من فوق سطح الماء.
العمر؟ نعم، البحر كريم أحيانًا. كثير من السلاحف البحرية يُعمّر طويلًا، وقد تتجاوز حياة بعضها قرنًا كاملًا، وربما أكثر. غير أن هذا الامتداد الزمني لا يعني قوّة، بل هشاشة من نوع آخر. فهذه السلحفاة، رغم طول بقائها، لا تتقبّل التغيّر بسهولة. أي اختلالٍ مفاجئ في حرارة الماء، في ملوحته، في التوازن الدقيق لحياتها قد يقلب كيانها رأسًا على عقب.
هي كائنات لا تحب المفاجآت. البحر، في عمقه، أكثر استقرارًا مما نظن. والسلاحف، سواء سكنته أو تجولت فوق اليابسة، مخلوقات اعتادت النظام. تعيش على التكرار، على الهدوء، على انتظام لا يعبث به أحد.
فمن يظن أن الفرق بين السلاحف البرية والبحرية محض اختلاف في الموقع، عليه أن يُعيد النظر. الفرق ليس في الجغرافيا فقط، بل في النَفَس، في الرئة، في طريقة التأقلم، في العلاقة مع البيئة، بل في المصير ذاته.
العناية بالسلاحف: مسؤولية لا تُؤخذ باستخفاف
قد يُخيل للبعض، تحت تأثير تلك الابتسامة الهادئة التي لا تفارق وجه السلحفاة، أن اقتناءها ضربٌ من التسلية، أو فكرة لطيفة تزيّن ركنًا من حديقة أو فناء منزل. ولكن تمهّل! فالأمر أعقد، وأثقل من مجرد قوقعة تمشي بهدوء.
إنّ العناية بأي سلحفاة، سواء أكانت من أبناء اليابسة أو من سبّاحات البحار، تستلزم فهمًا، صبرًا، والتزامًا لا يعرف الكسل. ولِنكُن واضحين منذ البداية: السلاحف البحرية ليست للحيازة الشخصية. في كثير من البلدان، بل في أغلبها، يُمنع اقتناؤها منعًا قاطعًا، لما في ذلك من تهديدٍ مباشر لتوازن النظام البيئي. وإن وُجدت بين يديك، فلعلّك تعمل ضمن مركز إنقاذ، أو جهة علمية بيئية وهنا تبدأ الحكاية الأكثر دقّة.
نبدأ بالسلاحف البرية. هذه الكائنات التي تمشي على الأرض، لا تعنيها الأقفاص، ولا تأنس بجدران الزينة. تحتاج فضاءً مفتوحًا، مساحةً يمرّ عليها ضوء الشمس في رحلته اليومية، ويظلّلها غيم خفيف حين تشتدّ الحرارة. الأرض تحتها؟ لا ينبغي أن تكون صلبة كالإسمنت. لا، بل تُفضّل ترابًا ناعمًا، أو رمالًا دافئة، لتدفن فيها أطرافها أحيانًا، أو تُقلّبها كما يحلو لها. الغذاء؟ ليس كل ما نأكله يصلح لها. الورقيات، الخضار، بعض الفواكه بقدر، نعم. لكن الملح؟ السكر؟ هذه سموم تتسلّل في ثوب المذاق. واترك لها المساحة. لا تحاصرها. هي لا تُربّى لتُحبس، بل لتمشي، ولو ببُطء. الحرية عندها ليست ترفًا، بل شرط حياة.
أما إذا كنت مسؤولًا بحقّ عن سلحفاة بحرية... في مركز مختص، أو موقع محميّ، فاستعد لمهمةٍ لا تكتمل إلا باليقظة. الماء الذي تسبح فيه ليس مجرّد سائل. هو موطن، هو حياة. درجة حرارته، ملوحته، نقاوته كلّها تفاصيل فارقة. التغذية؟ تحتاج توازنًا محسوبًا بدقة، يُراعي نوعها، عمرها، حالتها الصحية. وإن بدا لك الأمر مستقرًا، فتذكّر أنها مخلوق لا يصرّح بتوعّكه. عليك أن تلاحظ، أن تُدقّق، أن تكون عينها الأخرى. السلاحف البحرية، بخاصة، لا تتحمل الإهمال. قد يموت فيها الأمل بمجرد تغيّرٍ طفيف في درجة الماء، أو مادة غريبة تسلّلت إلى حوضها. رئتها، جلدها، جهازها الهضمي كلّها مهيّأة لنظامٍ دقيق، إن اختلّ، اختنقت معه الحياة.
فلا تُخطئ الظنّ. السلحفاة ليست لعبة، ولا تحفة على رفّ. إنها عهد. مسؤولية أخلاقية، وامتداد لنبضٍ طبيعيّ يجب أن يُحترم.
الغذاء والبيئة المثالية لكل نوع
السلاحف البرية، في هدوئها الأصيل، تختار طعامها من أعماق الأرض. النباتات هي ملكها... أوراق الشجر، الأعشاب، والجذور التي تغرسها في ترابها، هي غذاؤها الأساسي. لا تتطلع إلى الرفاهية في طعامها، بل إلى ما هو طبيعي، نابتٌ تحت الشمس أو في الظل الخفيف. أما عن البيئة التي تعيش فيها، فالأمر أكبر من مجرد أرضٍ جافة. هي بحاجة إلى طقس معتدل، تشرق فيه الشمس وتدفئ جسدها الخفيف، وفي الوقت ذاته، تحتاج إلى ملاذٍ مظلل حيث تتنفس هواءً هادئًا بعيدًا عن حرارة الظهيرة. إنها تبحث عن توازنٍ في حياتها لا جفاف مرهق، ولا رطوبة خانقة.
في الجهة الأخرى، تسبح السلاحف البحرية في عالمها الأزرق، حيث لا شمس ولا ظلال كما نعرفها. غذاؤها ينقضّ من الأعماق: الطحالب التي تسبح كأشباح خضراء في المياه، قناديل البحر التي تتوهج وتبهر تحت الأمواج، وكائنات بحرية صغيرة، تتسلل عبر تيارات المياه. أما بيئتها، فهي مياه مالحة لا تنتهي... مياه تحتفظ بحرارتها في سكونٍ متقن، لا باردة ولا حارة، بل دافئة، وكأنها حضنٌ أزرق يحتضن السلحفاة طوال عمرها. تلك المياه تفرش أمامها عالماً آخر، لا يعبث به تلوث، ولا تشوشه أي تقلبات مناخية مفاجئة.
لكن، ما هو الأهم في هذه المعادلة؟ ليس فقط ما تأكله، بل ما يحيط بها. السلاحف البرية ليست مجرد كائنات تمشي على اليابسة. إنها بحاجة إلى التوازن الدقيق بين الحرارة والظل، بين النشاط والراحة. فهي لا تتحمل الازدحام، ولا تطيق العيش في الأماكن المغلقة. السلاحف البحرية، من جهة أخرى، لا تقتصر احتياجاتها على الطعام والماء فقط، بل على التوازن المائي الدقيق. درجات الحرارة التي قد تكون مثالية لغيرها، قد تكون قاتلة لها. إن لم تُحسن إمدادها بالبيئة المناسبة، تصبح حياتها في خطر.
لذلك، وعلى الرغم من التشابه الظاهري بين السلاحف البرية والبحرية، فإن العناية بهما تتطلب مستوى من التخصص، من الفهم العميق، لا يمكن تحققه إلا عبر احترام احتياجات كل نوع. ولا يمكننا أن نعامل هذه الكائنات كما نعامل أياً من الحيوانات الأخرى، بل يجب أن نمنحها بيئة خاصة، غذاء مخصصًا، وعناية مدروسة.
إذن، كل سلحفاة هي عالم له قوانينه، ومناخه، وأطعمة لا يمكن الاستغناء عنها. فهل نحن مستعدّون لأن نفهم هذه العوالم؟
جمال السلحفاة في صبرها وثباتها
ليست مهرجة تركض في أرجاء البيت، ولا حيوانًا يركض نحوك لمجرد أنك عدت من العمل... السلحفاة لا تهز ذيلها فرحًا، ولا تلعق يدك شوقًا، لكنها تقيم في الزاوية بصمت، بعينين جامدتين كأنهما تُفكّران في شيءٍ أبعد من هذا العالم. هي لا تُثير الصخب، بل تُخمده.
في حضرة السلحفاة، الزمن يتباطأ... اللحظة تتمطّى كأنها لا تريد أن تنتهي. كلّ شيء فيها يقول لك: “توقّف”، لكن ليس بحدة بل بشيء يشبه الهمس. البطء الذي تعيشه السلحفاة ليس خمولًا، بل فلسفة. تأمّل قوقعتها، تلك الدّرع الصامتة، ليست سجناً بل بيتًا متنقّلًا، فيه أمان العالم كلّه، وفيه اختيارات مدروسة: هل أخرج؟ هل أبقى؟ هل أضع ثقتي أم أختبئ قليلاً؟
العجيب أن السلحفاة لا تحتاج للضجيج لتُثبت وجودها. لا تلجأ إلى العض أو الصراخ أو إثارة الانتباه هي هناك، تُمضي ساعات طويلة فقط في المشي قليلاً، والتوقف كثيرًا، كأنها تقول: “أنظروا كيف أعيش دون استعجال، ودون أن أفقد شيئًا”.
ولأن عالمنا يركض... يركض بلا توقف، نكاد ننسى كيف يكون الهدوء، وكيف يُمكن لصبر كائن بطيء أن يُعلّمنا أكثر مما تفعل كتب التنمية الذاتية كلها. السلحفاة، يا صديقي، ليست فقط زاحفة قديمة نجت من عصور الديناصورات، بل هي بقايا حكمةٍ تمشي فوق الأرض.
لا تحتاج السلحفاة إلى الكثير. لا مكان كبير، لا عواطف متدفقة، لا طعام فاخر. تأكل ما تجده، وتكتفي بما تملك. وربما هذا ما يجعلها حيّة حتى اليوم، حتى اللحظة. إنها لا تطلب... فقط تنتظر.
وفي لحظات ضيقك، حين تشعر أن الحياة تسبقك، أن كل شيء يركض وأنت لا تلحق، انظر للسلحفاة. لا لأنها الحل، بل لأنها تذكير نادر بأن السرعة ليست كل شيء، وأن من يمشي بخطى ثابتة، حتى إن كانت بطيئة جدًا، قد يصل قبل من يركض ولا يعرف إلى أين. فربما، فقط ربما... نحتاج إلى سلحفاة في ركن صغير من منازلنا، لا لنطعمها ورق الخس، بل لننظر إليها وهي لا تفعل شيئًا، فنتعلّم من ذلك كل شيء.
التهديدات التي تواجه السلاحف البرية والبحرية
في الزوايا المنسيّة من البرّ، تحت ظلال الشجيرات الجافة أو وسط رمال لا صوت لها، تمضي السلاحف البرية حياتها على مهل، لكنّها ليست آمنة كما تظن. فكلّ شبر جديد يُصبّ عليه الإسفلت، وكلّ مبنى ينهض فجأة من الأرض، يسرق جزءًا من عالمها. إنها لا تشتكي، لا تحتج، فقط تختفي شيئًا فشيئًا.
أما السلاحف البحرية... آه، يا لصوص البحر! مَن سينقذها من شباكٍ لا ترى، تلتف حول رقبتها أو تقطع زعانفها كأنها مجرد "خطأ في الطريق"؟ تلك الشباك لا تصطاد السمك فقط، بل تخطف معها أرواحًا بطيئة، لكنها ثمينة. ثم هناك البلاستيك. نعم، أكياس النايلون تلك التي نرميها بلا تفكير، تتطاير في الريح، تهبط في البحر، وتتحوّل فجأة إلى وجبة قاتلة تبتلعها سلحفاة لم تكن تعرف أنها تسبح نحو موتها.
درجة حرارة المياه؟! ترتفع بهدوء، لا تسمعها، لا تلمسها، لكنها تغيّر كلّ شيء. دورة حياة السلاحف، توقيت البيض، جنس الفراخ الصغيرة، وحتى بقعة الرمال التي اعتادوا العودة إليها عامًا بعد عام كلّ شيء صار مضطربًا، مرتبكًا، غريبًا.
ومع كل هذا، لا تزال هناك فرصة. نعم، ليست مستحيلة. لكنّها تحتاج لصوت بشري يعلو لا ليأمر، بل ليحذر. لحركة يد لا تعبث، بل تنقذ. لوعيٍ لا يُولد من الكتب فقط، بل من الاحترام العميق لكل كائن لا يستطيع الدفاع عن نفسه بالكلمات، لكنه يصرخ بالصمت.
فهل نملك الجرأة لنقف إلى جانبها؟ لا لنتحدّث فقط، بل لنفعل. لنقل كلمة في وجه الصيد، لنقلّل من نفاياتنا، لنوقّع على مبادرة، لنُشعل ضوءًا صغيرًا في هذا البحر المظلم. لعلّ سلحفاة هناك، عالقة في شبكة بلاستيكية، تنتظر فعلًا لا وعدًا.
هل يمكن تربية السلاحف؟ الإجابة تعتمد على النوع
السؤال يبدو بريئًا، أليس كذلك؟ "هل يمكنني تربية سلحفاة؟". لكن مهلاً أيّ سلحفاة تقصد؟ سلحفاة برية تمشي بتؤدة وسط الحديقة؟ أم تلك البحرية التي تعوم في الأعماق وكأنها جزء من الحلم الأزرق؟
لو كنت تقصد السلاحف البرية، فالإجابة نعم، لكن لا تتحمّس كثيرًا. هذه ليست قطة تركض خلفك، ولا كلبًا يهز ذيله بفرح. السلحفاة البرية تحتاجك أن تتعلم طريقتها في الحياة: الهدوء، البطء، الصبر، والكثير من المراقبة الصامتة. لا تحب الضوضاء، ولا تغييرات الجو المفاجئة، ولا أن تُجبر على شيء. لها شخصيّتها، وإن بدت لك "مجرد صدفه تمشي".
تحتاج إلى مساحة خاصة، درجة حرارة مناسبة، تربة تحفر فيها قليلًا، وأكل بسيط لكنها دقيقة في اختياراتها. نعم، تأكل أوراق الخس وأحيانًا الفواكه، لكن بعض الأنواع تصاب بأمراض لمجرد أنك قدّمت لها نوعًا خاطئًا من الغذاء. هل كنت تعلم ذلك؟ غالبًا لا.
أما إن كنت تحلم بتربية سلحفاة بحرية، فاعذرني، هنا يجب أن نتوقف. هذا النوع لا يخصّنا نحن البشر في بيوتنا. مكانه البحر، لا الحوض الزجاجي. وجوده هناك ليس عبثًا، فالسلاحف البحرية تساهم في توازن السلسلة الغذائية البحرية، تنظّف الشعاب المرجانية، وتلعب دورًا بيئيًا لا نراه لكننا نحتاجه بشدة. أن تضع سلحفاة بحرية في حوض منزلي هو كأن تضع البحر كله في زجاجة صغيرة... مستحيل، ومؤذٍ.
فكر جيدًا. تربية السلاحف ليست رفاهية، بل مسؤولية. فحين تقرر أن تستضيف كائنًا كهذا في حياتك، لا بد أن تلتزم بقوانينه، لا قوانينك. وإن لم تكن مستعدًا لتغيّر بعضًا من نمط حياتك، فربما الأفضل أن تتركها تمضي في طريقها، حرة كما يجب أن تكون.
في الختام
ليست السلاحف البرية والبحرية مجرد فصائل تُدرَج تحت عنوان “الزواحف” في كتاب الأحياء. لا، المسألة أعمق، أرق، وأبقى. هما انعكاسان لعالمَين يسيران جنبًا إلى جنب، دون أن يلتقيا... أحدهما يتنفس الرمل، ينام تحت الشجيرات، ويعشق دفء الشمس. والثاني يحيا في زرقةٍ لا قرار لها، يغوص حيث لا تصل الأصوات، ويحمل البحر في قلبه وملمسه وخطاه.
العناية بهذين الكائنين لا تُقاس بعلبة طعام، أو حوض ماء. إنها مسؤولية أخلاقية، شعور داخلي يُدرك أن كل كائن حي، مهما كان بطيئًا، يملك حكاية تستحق أن تُحترم. وأن فهم الفرق بين السلاحف البرية والبحرية ليس ترفًا معرفيًا، بل بداية ضرورية، كي لا نُفسد بيئتها من حيث لا ندري، وكي لا نحرمها من حقها في الحياة لمجرد جهلٍ أو عبثٍ أو رغبة في التسلية.
في هذا العالم الذي تتسارع فيه كل الأشياء حيث تُقاس القيمة بالسرعة، والأهمية بالضجيج... تأتي السلحفاة لتهمس في آذاننا بأن البقاء لا يكون بالاندفاع، بل بالثبات، وبأن الزمن لا يُقاس بالدقائق، بل بالأثر.
فلنحاول، ولو مرة، أن نكون أكثر هدوءًا، أكثر قربًا من التراب والبحر، أكثر إنصاتًا لما لا يُقال. فلنكن أكثر إنسانية تجاه هذا المخلوق الصامت، الذي يحمل فوق ظهره ذاكرة الأرض، وآلاف السنين من الصبر والاتزان. ربما، فقط ربما، لو فهمنا السلحفاة جيدًا لفهمنا أنفسنا بشكل أعمق.
هل أعجبك هذا المقال؟ هل تريد أن أكتب مقال مفصل حول السلاحف البرية والبحرية؟
للمزيد من المعلومات حول السلحفاة ستجدها هنا
للمزيد من المعلومات حول أنواع السلاحف ستجدها هنا