خروف البحر: العملاق الوديع في أعماق البحار – معلومات مذهلة عنه
يا للعجب! من كان يظن أن ثمة مخلوقًا هكذا؟ خروف البحر... نعم، لا تضحك، الاسم مربك قليلًا، بل مضلّل إن شئت الدقّة! فالسامع لأول وهلة يُخيل إليه أن الأمر يتعلّق بكائن صوفي يرتدي صوفًا ويتجوّل بين الأشجار أو يُطارد الفراشات في مرجٍ ربيعي. لكن لا، الأمر مختلف كليًّا. نحن لا نتحدث عن خروفٍ يركض خلف القطيع، بل عن كائن بحري.. غريب الشكل، بطيء النفس، يسكن الماء كما يسكن القلب ذكرى هادئة لا تُمحى.
خروف البحر، آه.. هو ليس خروفًا، وليس حتى ما تظنه من أول نظرة. رأسه ضخم، جلده سميك، وهناك في ملامحه شيء غريب، شيء يجعلك تتوقف، تتأمّل، ثم تبتسم دون أن تدري لماذا. يشبه الفيل؟ ربما. يشبه الدلفين؟ إلى حدٍ ما. لكنّه في النهاية، هو ذاته، لا يشبه سواه. يسمونه أحيانًا، بلطف، الراعي البحري للعشب.. كم يبدو هذا الوصف شاعريًا، أليس كذلك؟ هو طيب، طيب إلى درجة تثير الشفقة. لا يُهاجم، ولا يُخطط، ولا يفرّ. فقط يطفو. يأكل. يتأمّل. يختفي.
تخيل، إن شئت، هذا المشهد البطيء الذي يكاد لا يُصدق: مياه ساكنة، دافئة، وكأنها لم تُحرّك منذ قرون. سكون ثقيل يتدلّى من فوق سطح الماء. ثم، كمن خرج للتو من قصيدة، يظهر هو.. جسد رمادي، ضخم، ثقيل.. لكنه يتحرّك كما لو أن العالم كله يتنفس معه. لا عجلة. لا فوضى. فقط انسياب غريب، كأنّه يرقص.. لا، بل يتمايل كما لو أنّه حلمٌ استيقظ نصفه وبقي النصف الآخر نائمًا.
أين يعيش خروف البحر؟
أين؟ نعم، أين يسكن ذاك المخلوق الرمادي الحالم؟ خروف البحر، ذلك الغريب الذي لا يفتّش عن ضجيج، ولا يهوى أن يُحاط بالبشر أو الأسماك الصاخبة أو زوارق العالم المسرعة. لا، هو لا يريد إلا البُطء، الهدوء.. هواء مبلول برائحة النهر، وماء يحتضنه بلا سؤال.
غالبًا، تجده هناك، حيث الشمس تُصافح صفحة الماء دون أن تلسعه، في خلجانٍ خجولة، أو مصبّات أنهار تهمس لا تصرخ. أماكن مثل الأمازون، آه الأمازون، ذلك الوادي الذي تنفّست فيه الغابات قبل أن يولد التاريخ. أو مياه فلوريدا التي تسهر ولا تنام، حيث السكون يُشبه سمفونية كسل بديعة. وربما غرب إفريقيا، هناك، حيث الأمواج تروي الحكايات القديمة لرمالٍ لا تعرف الزمن.
خروف البحر لا يختبئ، لكنه لا يظهر كثيرًا. يتدلّى من قلب الماء كشعورٍ ثقيل لم يُقال. لا يتصارع، لا يُهاجم، لا يقفز مثل الدلافين، فقط.. يعوم. وأحيانًا، حين تبرد الدنيا قليلًا، حين تصبح المياه أقل دفئًا مما ينبغي، لا يتذمّر، لا يشتكي، بل يمضي بهدوءٍ لا يُحتمل.
أن تتخيّل؟ كائن يقطع المسافات، يُغيّر البحار، ربما يختفي عن أعين العالم، فقط لأن الماء لم يعد يرحّب به بالحرارة التي تعوّدها! مجرّد تغيّر بسيط في درجة حرارة البحر، يجعله يرحل. لا صيد يطارده، لا صياد ينتظره، لا جوع، لا خطر.. فقط ذلك البرود الذي لا يُطاق، لا من الجلد، بل من الروح.
أهو مفرط الحساسيّة؟ ربّما. أم شاعرٌ يرتدي جسد حيوان؟ من يدري؟ لكنّني، كلّما تخيّلته يسبح بعيدًا، فقط لأنّه "لم يعُد يشعر كما كان"، أحسست أنّ هذا العالم فيه شيء من الشعر، شيء لا نراه.. لكن خروف البحر يراه. أو يهرب منه.
ماذا يأكل هذا الكائن الطيب؟
لا تنخدع بشكله، لا... لا تسمح لذاك الفم العجيب، الذي يُشبه خرطومًا ناعسًا، أن يقنعك بأنه مفترس. هو ليس كذلك. لم يكن كذلك يومًا. خروف البحر لا يعرف كيف يُهاجم. لا يملك الرغبة. هو فقط... يأكل. لكن ماذا؟ ليس لحومًا، لا فرائس، لا صدًى للدم، لا مطاردة في الأعماق. بل نبات. فقط نبات. أعشاب بحرية خضراء، طحالب ناعمة، تلك الأشياء التي تُهملها العيون حين تمر على قاع البحر، هي كل عالمه الغذائي.
لساعاتٍ طويلة، تراه هناك... يلوك. ببطء. بصبرٍ لا يُعلِّمه أحد. وقد يقضي نصف نهاره لا يفعل شيئًا سوى المضغ. مضغ ساكن، كأنّه صلاة. يأكل كثيرًا، نعم. يقال إنّه يلتهم عشرات الكيلوغرامات يوميًا هل تتخيّل؟ كأنّ بطنه مزرعة متنقّلة. تنتفخ، تستدير، تبدو ممتلئة دومًا لكنها ليست علامة كسل. ليست سمنة. هي فقط... طبيعة حياته. فخروف البحر ليس بدينًا. لا تصفه بذلك. هو فقط كائن يعيش ببطء، يأكل ليُحافظ على انسجامه مع الماء، لا ليُشبع شهوة. كل ما فيه حتى أكله يشبه التأمّل. يشبه أن تقول للطبيعة: أنا هنا، ولن أُؤذيك.
هل هو مهدد بالانقراض؟
آه، خروف البحر... ذاك الكائن الذي لا يؤذي أحدًا، ولا يطلب شيئًا سوى أن يُترك لحاله. أن يسبح بسلام، أن يأكل بهدوء، أن يمضي في أيامه كما لو أن الحياة مجرد موجة دافئة تمر فوق جلده ثم تمضي. لكن، يا للأسف... العالم لا يُكافئ الطيبين.
هل هو مهدد بالانقراض؟ نعم. وبلا مواربة. وكأنّ الطيبة نفسها أصبحت تُشبه تهمة تستوجب العقوبة. كم من مرّة صدمه قاربٌ عابر؟ كم من مرّة اختنق بكيسٍ بلاستيكيٍّ عالقٍ بين الأعشاب؟ كم من مرّة تغيّر مسار نهرٍ، أو تلوثت مياه، أو انخفض منسوب دفء البحر، فقط ليموت هو... بصمت؟ لا صراخ، لا احتجاج، فقط اختفاء.
خروف البحر لا يصرخ حين يُؤذى. لا يهاجم حين يُضيّق عليه. فقط ينسحب. كأنّه كائن جاء من عالم آخر لا يعرف كيف يتعامل مع هذا الجنون البشري. والأدهى؟ أنه يموت أحيانًا لا بسبب العنف، بل بسبب البرودة! نعم، البرودة... تغيّر بسيط في درجة الماء، عدّة درجات لا تُذكر على مقياس الإنسان، لكنها على مقياس خروف البحر... موت.
يا للسخرية! كائن بهذه الرهافة، بهذه الحساسية الخارقة، بهذا القلب الذي لا يعرف سوى الطفو... مهدد. مهدد بكل شيء تقريبًا: مناخنا، نفاياتنا، صيدنا، أصوات محركاتنا، لا شيء يرحمه، لا شيء ينتبه له.
أتدري؟ أكثر ما يُفجعني، أن خروف البحر لا يملك سلاحًا... لا أنياب، لا سُمّ، لا مخالب. فقط استسلام هادئ. كأن وجوده ذاته احتجاج صامت على قسوة هذا العالم.
لماذا يحبّه الناس؟
لماذا يحبّه الناس؟ سؤال بسيط؟ لا. خدّاع، ككل الأسئلة التي تبدو عابرة وتخفي خلفها قاعًا عميقًا من الحيرة. لأنّه لا يُشبهنا. لأنّه يسبح خارج صخبنا، يبتسم دون أن يُفكّر كيف يبدو. لا يستعرض. لا يُنافق. فقط موجود. ببطءٍ لذيذ، بحضورٍ يشبه الحلم حين يمرّ في الغفلة.
وجهه؟ آه، وجهه! كأنّه وجه كائن لم يتعلّم الكراهية بعد. بعينين شبه ناعستين، شفاهٍ تلامس الضحك دون أن تنطق، وجسدٍ ضخم لا يرعب، بل يهمس: لا تخف. هناك من يسمّيه "حكيم البحر". وهناك من يراه تجسيدًا لصبر الكون. رمزية حيّة لما نحتاجه وما نفتقده. هدوءٌ في زمن يلهث. بطءٌ في حضارةٍ تقدّس السرعة حتى الاختناق.
خروف البحر ليس محبوبًا لأنه مدهش… بل لأنّه نادر. نادر في طيبته، نادر في سكونه، نادر في كونه لا يريد شيئًا سوى أن يُترك على حاله. لا يريد متابعين، لا يبحث عن إعجاب، لا يصنع ضجيجًا ليُلاحظ. هو فقط هناك. تمامًا كما يجب أن تكون الكائنات التي تُلهم. ولعلّنا، نحن الذين اعتدنا أن نحبّ من يصرخ، صرنا نحتاج من يهمس. ولعلّ حبنا لخروف البحر، ليس حبًا له فحسب، بل حنينًا لما فقدناه في أنفسنا: البساطة، التأمّل، والقدرة على أن نكون بلا دروع.
الخرافات والأساطير عن هذا الكائن
قديمًا، في الليالي التي كانت فيها البحار بلا خرائط، حين كان القمر هو البوصلة والريح دليلًا غامضًا، أقسم بعض البحّارة أنهم رأوا الحوريات. نعم، حوريات البحر. وجوهٌ مبلّلة بالضوء، شعور تسبح في التيارات، وهمسات تأتي من تحت السطح. أقسموا... وكتبوا في دفاترهم المرتجفة أنهم شاهدوها، تلك الكائنات الأسطوريّة، المعلّقة بين الحُلم والخرافة.
لكنّ الحكاية، كما كلّ الحكايات الجميلة، كانت تحمل خدعة صغيرة: ما رأوه لم تكن حورية… بل خروف البحر. نعم، هذا الكائن الهادئ، البريء حتى الغرابة، كان سببًا في كتابة بعض أكثر أساطير البحر دهشةً. فحين يطفو بجسده المستدير، وعينَيه العميقتين، وشفتَيه اللتين تتحرّكان كأنّهما تنشدان شيئًا لا يُفهم، يبدو حقًا كشيء خرج من الأسطورة، لا من الماء المالح.
بل، لنكن صادقين، ماذا ستظنّ لو لمحته لأوّل مرة؟ ليس سمكة. ولا دلفين. لا زعنفة مفترسة، ولا نظرة صيّاد. هو كائن... بلا تصنيف. روحٌ رماديّة تتهادى بين الحقيقة واللا يقين. وربّما، فقط ربّما، لم تكن الحكايات القديمة خرافة خالصة. وربّما خروف البحر لم يكن سوى مرآة… عكست على سطح الماء أحلام إنسانٍ متعب، عطِشٍ للدهشة، ضائعٍ بين الواقع والأسطورة.
خروف البحر في أعين الأطفال
هناك شيء ما يحدث، لا يُشرح بالكلمات، حين يلتقي الطفل بنظرة خروف البحر لأوّل مرّة. لا صوت، لا هدير، لا صياح... فقط صمت، يطفو. كأنّ كائنًا خرج من حلم هادئ، يسير داخل كتاب مصوّر، أو يسبح خلف زجاج حديقة مائيّة، يتسلّل إلى مخيّلة الطفل دون استئذان. لا يخيفه، لا يُدهشه بشدّة، بل... يُلين شيئًا صغيرًا في قلبه.
وجهه الضخم لا يُرعب، بل يضحك. حركته البطيئة لا تُمل، بل تُفتن. عيناه؟ هما حكاية كاملة، صافية، تشبه تلك النظرات التي يسرقها الأطفال حين لا يفهمون، لكن يشعرون.
خروف البحر لا يصرخ، لا يُغرّد، لا يُصفّر كالدلافين، ولا يلمع كبعض الأسماك. لكنه يطفو... فقط يطفو. وفي طفوته، يترك أثرًا. رأسه الرمادي يخرج من الماء لحظة، يرمق الأطفال بنظرة لا تشبه شيء، ثم يعود، كما لو أنّه يقول: "أنا لست من هذا العالم، لكنني لا أخيفك، بل أحبك بطريقتي البكماء".
الأطفال، ببساطتهم المعقّدة، يفهمون هذا الحب الصامت. يضحكون حين يرونه، ثم يصمتون وكأنّهم التقوا بكائن من زمن أبطأ، زمن نقيّ، يعلّمهم أن الجمال لا يحتاج إلى ألوان صارخة، بل إلى نبضٍ لطيف لا يُرى.
لمسة أخيرة
في عالمٍ يركض دون أن يعرف لماذا، وفي شوارع تمشي الأصوات فيها أسرع من الخطى، هناك كائن... لا يركض. لا يلهث. لا يُلاحق سرابًا. خروف البحر، هذا الكائن الرماديّ البليغ بصمته، لا يقول شيئًا. لكنه يهمس. يهمس بما لا تُجيده اللغة: "اهدأ"، "انظر"، "تنفّس ببطء، كما لو أنّ الهواء نادر وثمين".
هو لا يعيش في المدن، لا يُشاركنا الإسمنت ولا الإعلانات. هو هناك، في الماء الذي لا يصيح، في الطين الذي لا يشتكي، في الأعشاب التي تنمو دون أن تُصفّق لها الدنيا.
إنّه ليس كائنًا وحيدًا.. بل فكرة. رمزٌ ثقيل الظل على العالم الحديث، خفيف الروح على من تعب. دعوة ليست مكتوبة، لكنّها واضحة كعين الشمس: توقّف عن الركض. لا أحد يلاحقك، سوى نفسك.
وإن صادفك وجهه في صورة، أو لمحته يطفو في مشهد عابر على شاشة ما، لا تمرّ سريعًا. توقّف. تمعّن في ملامحه التي لا تُشبه أحدًا، وفي عينين لا تلمعان كبريقٍ اصطناعي، بل تشبهان بداية الكون. تشبهان النقاء الذي نسيناه.
وهكذا... لا تنتهِ الرحلة، بل تبدأ. من هنا، من سطرٍ عن كائن لا يتكلّم، وربما لهذا السبب... يُفهم بعمق أكبر. قد لا يطلب منّا شيئًا، لا تبرعات، لا صخبًا، لا احتفالًا. كل ما يريده؟ ألا نُفسد عالمه. ألا نقطع الهدوء الذي يعيش فيه كأنّه دين. هل ستتذكّره؟ ربما. لكن الأهم: هل ستتذكّر كيف جعلك تشعر؟ هذا... لا يُنسى.
هل كنت تعرف من قبل أن خروف البحر قريب من الفيلة؟ شاركنا في التعليقات برأيك، وهل تعتقد أنه يستحق لقب “أكثر كائن وديع في البحر”؟