معلومات حول التمساح

 معلومات حول التمساح
المؤلف عالم الحيوانات
تاريخ النشر
آخر تحديث

 معلومات حول التمساح




















    بمجرّد ما يُذكر اسم التمساح كأن شيئًا ما يتحرك داخلك! خوف؟ ربما. أو مجرّد قشعريرة عابرة تُشبه تلك التي تشعر بها حين تحدّق في عيون جامدة لا تبتسم، لكنها تقول كلّ شيء. هذا الكائن العجيب ليس كومة جلد سميكة تتدحرج في الوحل فحسب، بل هو صفحة ممزّقة من كتاب قديم جدًا... كتاب يعود لزمنٍ كانت فيه الديناصورات تمرّ بجانب الشمس ولا تلتفت.

    تخيّله هناك، منذ آلاف... لا، ملايين السنوات، يزحف بين الأشجار العملاقة، يتربّع بجانب المياه الراكدة، وكأنّه يقول للطبيعة: "أنا باقٍ... شئتِ أم أبيتِ." نجا من الكوارث، من الزلازل، من الانقراضات الجماعية، من غضب الأرض وتقلب السماء... ببرودة دم لا يملكها أحد!

    لكن لحظة. هل نعرفه فعلًا؟ أم أنّنا نُسقط عليه تلك الصورة النمطيّة الباهتة؟ ذلك الوحش الأخضر المتربّص، الذي يفتح فمه ليبتلع كلّ ما يقترب، بلا رحمة، بلا صوت؟ تعال. دعنا نمشي معًا على الحافة نغوص قليلًا، نترك الظنّ جانبًا، ونفتح نافذة على عالمٍ قلّ من اقترب منه حقًا. هناك خلف الطين والعينين الثابتتين، يسكن التمساح. وما يخبئه، أكثر من مجرد أسنان.

التمساح ليس ساذجًا أبدًا

    قد يراك جالسًا بلا حراك، كقطعة طين متجمدة تحت شمس الظهيرة الحارقة، فتقول في نفسك: “هذا بطّيء، لا يفقه شيئًا.” لكن صدقني، في صمته هذا تكمن المؤامرة. عيناه تراقبانك، يلتقطان أدقّ اهتزازٍ في الماء، وأضعف نَسمة هواء. ثم، وكأنها لعبة رياضية محترفة، يحين وقت الانطلاقة: حركة خاطفة، لا تراها إلا بعد فوات الأوان!

    التمساح صيّادٌ مهيب، لا يركض وراء صيدٍ هاربٍ، ولا يلهث خلف فريسة تُحاول اللحاق بالأمان. بل صبرٌ بلا حدود، انتظارٌ بمللٍ مدروس، ثم هجومٌ بحرفيّةٍ تفوق كلّ خيالك. فكرته ليست الخفة، بل الاستراتيجية القاتلة. حركة واحدة منه لا أكثر قد تنهي حياة فأرٍ صغير، أو طائرٍ غافل، أو حتى غزالٍ يظنُّ نفسه بعيدًا عن النيران.

    هاه! ألا يبدو مخيفًا؟ هذا التمساح يُعلّمك درسًا واحدًا: المظهر قد يخدع، لكن العقل، عقل صيّادٍ قديم لا ينام أبدًا.

بيئة التمساح: الماء هو موطنه المقدّس

    للوهلة الأولى، قد تظنّ أنّ التمساح مجرّد زائر عابر للماء، كأيّ حيوان آخر يبحث عن الشرب أو السباحة. لكنك، يا صديقي، واهم تمامًا! فالماء ليس بالنسبة له مجرد مكان يمرّ به بل هو عالمه، حضنه، مسرحه الخاصّ الذي لا يطيق الخروج منه إلا مكرهًا.

    التمساح يعشق الماء كما يعشق النسر الريح. لا يشعر بالأمان إلا حين يلفّه البلل، حين يغمره السكون الغامض في عمق المستنقع أو هدوء جدولٍ نائم في غابة بعيدة. اليابسة؟ نعم، يعرفها، ويمشي فوقها إن أراد. لكنّ خطواته هناك ثقيلة، بطيئة، كمن يسير في أرض لا تخصّه. الماء، وحده، هو المكان الذي يشعر فيه بأنّه ملك لا يُنافس.

    تخيّل أن تمرّ بجواره دون أن تدرك ذلك. بسهولة! جلده الغامق، كأنّه قطعة من الطين المشقّق أو جذع شجرة قديم، يساعده على الاختفاء. لا صوت. لا حركة واضحة. فقط عينان تلمعان بين الموجات، كنجمتين ساكنتين تترصّدان كلّ شيء. الكائنات، الطيور، حتى نبض المكان.

    أنفه؟ تلك النقطة الصغيرة التي تطلّ بهدوء فوق سطح الماء، لا تكاد تُرى. بعبقرية هندسية مذهلة، يستطيع أن يتنفّس دون أن يُعرّض نفسه للرؤية أو الخطر. الهواء يدخل، والحركة تختفي، ويبقى هو في انتظاره الأبديّ، صبورًا كصخرة، مخيفًا كظلّ لا تعرف من أين ينبثق.

    المستنقعات الموحلة، البرك النائمة، الأنهار التي تخفي أسرار الليل، كلّها ليست مجرد بيئات تمرّ بها التماسيح بل هي أراضي مقدّسة. فيها يولد، فيها يختبئ، فيها ينقضّ، وفيها أيضًا يُحبّ ويُكاثر. قد يبدو الأمر غريبًا، لكن التمساح لا يحبّ الزحام، لا يعيش في ضجيج المدن، بل يختار الأماكن التي تهرب منها الكائنات الأخرى، ليجعلها قلعته السرية.

التمساح لا يبتلع فريسته مباشرة!

    ربّما تظن، لوهلةٍ ساذجة، أن التمساح حين ينقضّ على فريسته، يفعل كما تفعل الأفعى يفتح فاه، ويمدّ جسده، ويبتلع، ثم ينتهي كل شيء. لكن لا! لا يا عزيزي. التمساح لا يؤمن بتلك الرتابة. هو لا يُحبّ الأفعال الصامتة الخالية من العنف المهيب. لديه طقسٌ خاص. رقصة جهنّميّة تُعرف عند العارفين باسم "لفة الموت".

    آه هذه اللفة ليست مجرد حركة عشوائية، بل هي طقوس دمويّة دقيقة، فيها تكمن عبقريته القاتلة. حين يمسك بفريسته  سواء كانت غزالًا ضالًا أو طائرًا غافلًا يبدأ بالدوران، لا في الهواء، بل في الماء، حول نفسه كدوّامة جحيم. جسده الضخم يتحوّل إلى مِثقاب حيّ. لا ليُبهر أحدًا، بل ليمزّق اللحم، ليُفكّك العظم، ليحوّل الكائن الذي كان حيًّا قبل لحظات إلى قطع متناثرة يسهل ابتلاعها.

    ولك أن تتخيّل. أن ترى المشهد لا بعينيك، بل بروحك. فريسةٌ تئن، وماء يتلوّن، وتمساح يدور كأنّه آلة طحن بدائية خرجت من رحم الطبيعة البريّة، لا تعرف الرحمة، ولا تفكّر فيها أصلًا.

    لكن المفارقة، المفارقة التي تُثير الضحك الأسود، هي أنّ فم التمساح مليء بالأسنان. كأنّها أسلاك من حديد، مصفوفة في فوضى منظّمة، تُرعب كلّ من يراها. عشرات... لا، ربّما مئات من الأسنان الحادّة التي لا تصلح للمضغ أصلًا! نعم، لا يمضغ! ولا يهمّه ذلك أصلًا. الأسنان هنا مجرّد أدوات تثبيت، كما لو أنّه يقول: "أنا لا أحتاج إلى التذوّق. فقط أمسِك... وابتلع."

    لا حديث هنا عن لذّة الطعام، أو بطء الهضم. فحين يقرر التمساح أن يأكل، فإنّه يُسكت العالم. يقبض على الحياة، ويدوّرها، ثم يبلعها دفعة واحدة... ببرودٍ، لا يشبه إلّا سكون الأعماق.

عائلة التمساح: لا مكان للحنان؟ ليس تمامًا!

    حين تنظر إلى التمساح، عيناك لا ترى إلّا الصلابة. جلده المدرّع، فمه الممتلئ بأسنان كأنها شفرات، طريقته في الزحف كأنّه يسحب خلفه عصورًا من الوحشية... فكيف، بالله عليك، يمكن أن ينبت من كلّ ذلك مشهدٌ فيه شيء من الحنان؟

    لكن انتظر... المفاجأة تكمن دومًا في التفاصيل. تلك الأنثى، التي تُشبه تمثالًا من الخطر، تجلس فوق الرمل. لا لتستريح، بل لتحرس. البيض مدفون تحتها، مختبئ، يتنفّس الزمن بصمت. وإذا اقترب أحد  حتى لو كان نسمةً فإنّها تتحوّل إلى إعصارٍ دفاعيّ، تنقضّ كأنّها روح قديمة تحرس كنزًا مقدّسًا.

    والأعجب؟ حين يخرج الصغار، هزيلين، ضئيلين، لا قدرة لهم على مواجهة العالم  ماذا تفعل؟ تفتح فمها ذلك الفم الذي أكل وابتلع وقتل وتُدخلهم فيه. لا لتلتهمهم، بل لتحملهم! أجل، تحملهم في تجويف فمها، وتسبح بهم كزورقٍ من جلد وعضلات، حتى توصلهم إلى الماء، هناك، حيث تبدأ حكايتهم.

    ولكن لا تنخدع كثيرًا. فالأمّ هنا لا تبكي فرحًا، ولا تغنّي لطفلها الصغير. ما تفعله، تفعله لأن شيئًا أعمق من الحبّ يتحرّك بداخلها... الغريزة. ذلك البرنامج القديم الذي يسكن أعماق الكائنات منذ البدء، ويقول: "احفظ النوع، دافع عن الصغار، ولو بدمك."

    وإذا شعرت بالخطر؟ إذا استشعرت ظلّ عدوّ يقترب من العشّ؟ تتحوّل من ناقلة للصغار إلى عاصفة من عضلات وزئير. حتى لو كان البيض لم يفقس بعد... فإنّها تحميه كما لو كان قلبها نفسه مدفونًا هناك. لا مكان للحنان؟ ليس تمامًا. لا في هذا العالم. أحيانًا، حتى الوحش... يهمس. لا بالكلمات، بل بالأفعال.

التمساح في ثقافات الشعوب

    هل تصوّرته يومًا مجرّد زاحفٍ بدائي؟ بارد الدم، ساكن المستنقعات، ينقضّ بلا صوت؟ أنت لم تعرف التمساح بعد. لأنّ هذا الكائن الغامض لم يعش فقط في المياه الآسنة بل سبح طويلاً داخل خيال الإنسان، عبر العصور، عبر الحضارات، كرمزٍ، كتحذيرٍ، كصورة متحوّلة لا تستقر.

    في مصر القديمة، لم يكن التمساح مجرد حيوان بل كان إلهًا. سوبك، ربّ المياه العميقة، صاحب الرأس الزاحف والجسد البشري، المُهاب والمرهوب معًا. لم يروه كوحش، بل كقوّة عظيمة تحمي الأرض، أو تبتلعها إن غضبت. كان جزءًا من نهر النيل نفسه، يتدفّق معه، يحرس مجراه، ويتربّص بالعابثين به.

    لكنّ الصورة لم تكن ورديّة في كلّ الثقافات. في بعض الزوايا من هذا العالم، خُيّل إليهم أن التمساح يسكن البُحيرات التي لا تنعكس فيها السماء. ظلاله تمتدّ في القصص الشعبيّة، كأنّه كائن من عالمٍ آخر. كشيطان لا يُطير، بل يزحف بصبر، يتظاهر بالوداعة، يبتسم ثم يلتهم.

    تلك الابتسامة نعم، تلك التي لا تتغيّر كانت سببًا في تسمية “دموع التماسيح”. الحزن الكاذب، البرود اللامبالي، الذي يبكي وهو يعضّ، ويئنّ بينما يطحن ضحيته. هذا التعبير لم يخرج من فراغ... بل من مراقبة طويلة لكائن لا يظهر ما يُخفيه.

    في حكايات الأمهات، وفي أساطير الأدغال، وفي خرافات الشامان دائمًا هنالك تمساح. أحيانًا محتال، وأحيانًا روح مائيّة، وأحيانًا لعنة. لا وجود لصورة واحدة له. هو انعكاس الخوف نفسه، وتجسيد الغدر حين يتّخذ له شكلًا حيًّا يسبح بهدوء تحت سطح الظنّ. فهل التمساح رمز للقوّة؟ أم للغدر؟ أم أنّه فقط مرآة... لما نخاف أن نراه في أنفسنا؟

هل التمساح مهدد بالإنقراض؟

    ذلك الكائن العتيق، الذي خرج من صفحات التاريخ وهو يزأر في وجه الفناء، هل بدأ يخسر معركته الأخيرة؟ بعض التماسيح، نعم، ما زالت تتجوّل بأعداد معقولة، تعيش ما تبقّى من مجدها في المستنقعات والأنهار التي لم تُشوّه بعد. لكن الصورة ليست وردية أبدًا. هناك أنواع أخرى بالكاد تُرى. نادرة، مرهقة، محاصَرة بين الخرسانة والمياه الملوثة، مطاردة برصاص الطمع والشهوة.

    التمساح ليس مخلوقًا مرنًا، لا يتأقلم بسهولة، ولا يحب التغيير المفاجئ. بيئته ليست مجرد مكان يسكنه، بل خريطة خفية يعرفها عن ظهر قلب. يعرف أماكن الظلال، ونقاط الكمائن، ومسارات الفرائس، وجحور الأمان لأطفاله.

    فحين تُدمَّر هذه البيئة، يُترك التمساح كأنّما نُزع منه وعيه. يضيع، يتخبّط، ويبدأ بالتقلّص... لا في الحجم، بل في الوجود. التهديد لا يأتي دائمًا كعاصفةٍ تصرخ، بل أحيانًا كقطرةٍ تتكرّر حتى تُفتت الصخر. والتماسيح، إن لم ننتبه، ستتحوّل من مخلوقات حيّة إلى قصص في كتب التاريخ، تمامًا كما حدث لرفاقها من الديناصورات.

التمساح ليس عدوًا... لكن لا تثق به!

    التمساح ليس عدوّك في الظاهر، لكنّه بالتأكيد ليس صديقك. لا تنخدع بهدوئه، ولا تُخطئ باعتباره مخلوقًا يمكن تطويعه، لأنّ خلف تلك العيون الجامدة يكمن وحشٌ لا يعرف المزاح.

    قد تسأل، من باب الفضول أو الجنون: "هل أستطيع تربية تمساح في المنزل؟" الجواب؟ لا تفعل. لا تحاول. لا تفكّر حتى. فحتى ذاك التمساح الذي تربّى في الأسر، وأُطعم بيد بشرية لعشرات المرّات، يظلّ تمساحًا. لا ينتمي إلى عالم الألفة، ولا يُجيد تقمّص دور الأليف. يكفي لحظة شرارة غريزة حتى يتحوّل كل ما ظننته "آمنًا" إلى فوضى دامية.

    التمساح ليس متهوّرًا. لا يندفع وراء استفزازات تافهة. لكنه يتذكّر. يرصد. يصبر. جسده مُهيّأ للانتظار، كما لو كان الزمن جزءًا من تكوينه. لا يأكل؟ لا بأس. لا يتحرّك؟ لا يعني أنه نسي كيف. هو فقط ينتظر التوقيت المثالي، اللحظة التي تتقاطع فيها الفرصة مع الرغبة وهناك، لا يبقى شيء على حاله.

    إياك أن تنخدع بابتسامة التمساح. فهي ليست دعوةً للسلام، بل علامة على أنّك تحت المراقبة.

كلمة أخيرة

    كلمة تُقال في نهاية هذا الرحيل داخل جلد التمساح... لكن هل تُقال فعلًا؟ أم يُهمَس بها بين السطور، حيث الرعب يلتقي بالإعجاب؟ التمساح ليس مجرّد زاحف ثقيل يتسلّل من المستنقع، وليس مجرّد فكّين يُطبقان على كل شيء يتحرّك. هو أبعد من ذلك، أعمق بكثير.

    كأنّه قطعة من التاريخ لم تُمحَ. كأنّ الطين تشكّل ليصير ذاكرة حيّة، تتحرّك وتتنفّس وتنتظر. داخله شيء يشبه الخلود. لا يشبه باقي الحيوانات، لا في هيبته، ولا في برودته، ولا حتى في طريقة مشيه التي تشبه الاستفزاز البطيء.

    لا يبتسم. لا يتوسّل. لا يلهث ككلب، ولا يتودّد كقطة. التمساح وُلد كما هو. خُلق ليكون آلة متقنة، دقيقة، لا تتعطّل، ولا تحتاج إلى تحديث. هو ليس زينة الطبيعة، بل طريقتها في قول: "أنا أستطيع أن أخلق ما يُرعبك... ويُبقيك متيقظًا."

    وحين تحدّق في عينيه، ستجد فيهما قِدمًا لا يُوصف. شيءٌ لم تفهمه بعد، ولن تفهمه تمامًا. ترى فيهما أشياء لم تجرؤ أن تراها في نفسك. كأنّه مرآة. لكن مرآة للطبيعة حين تتوحّش.

تعليقات

عدد التعليقات : 0