في أطراف الأرض البعيدة، حيث تتشابك أغصان الأشجار كأنّها أذرع زمنٍ قديم، وحيث الضوء لا يزور المكان إلا خجولًا، هناك من يسكن الصمت... بثقلٍ لا يُقاوم. كائن لا يُشبه سواه، لا في خطواته الواثقة، ولا في نظرته التي تخترق الأشياء. إنه الدب، ذلك المخلوق الذي تتقاطع فيه الأسطورة مع الحقيقة، وتتمازج في هيئته المتناقضات العجيبة.
ليس مجرّد كتلة من اللحم والفرو تمشي على أربع، ولا هو ذاك الوحش الذي ترويه الأساطير كرمز للرعب والموت. لا، لا. إنّه أكثر من ذلك بكثير. في داخله سكون لا يُفسَّر، وفي عيونه حكايات عن شيء قديم، شيء لا يُحكى ولا يُنسى.
بين عضلاته القويّة يختبئ نوع غريب من الحنان... غريب فعلاً! فتراه يُربّت على صغاره بأناملٍ تُشبه الخشونة، لكنّها محمّلة بخوف أب لا ينام. وإن غضب، ارتجفت الأشجار من زئيره، لكنّه في معظم الأوقات يفضّل العزلة.
الدب؟ هو ذلك اللغز الممزوج باللحم والظلال، القريب من القلب، البعيد عن الفهم. قويّ بما يكفي ليكسر عظامك، وهادئ كأنّه شاعر فقد صوته في مهبّ الغابة.
من هو الدب؟
من يكون هذا المخلوق المُهيب؟ ذاك الذي إذا ذُكر اسمه، انقسم الناس بين رهبة وفضول... إنّه الدب. لا تتصوّرنّ أنه مجرّد نوع واحد يسكن بقعة محدّدة من الأرض. كلا. إنّه عائلة كاملة، سلالة واسعة، تمتدّ بمخالبها على خريطة الكوكب، من الثلج إلى الطين، من الصقيع إلى دفء الغابات الماطرة.
قد تراه هناك، فوق قمم الجبال التي لا يصعدها إلا الهواء المثلّج، يتجوّل كظلّ قديم، أو يهبط نحو الأنهار التي لا تعرف السكون، يحدّق في المياه باحثًا عن سمكةٍ هاربة... وربّما، وفي لحظة غريبة من يومٍ غائم، تجده مُتمدّدًا على جانبه، في ظلّ شجرة عتيقة، يلعق فرو صغيره بلسانٍ يشبه الصخر في خشونته، لكنه يفيض حنانًا بطريقة يصعب تصديقها.
جسدٌ؟ نعم، ضخم كجبل. فرو؟ كثيف، ثقيل، يعزل البرد كما لو أنّه درع من الشتاء ذاته. وصوت؟ حين يغضب، لا يُشبه شيئًا... أقرب إلى الرعد منه إلى أي شيء آخر. لكن الغريب في الأمر، وربّما أكثر ما يبعث على الحيرة، أنّه رغم ثقل وزنه يستطيع أن يتسلّل كما يتسلّل الوهم، أن يمشي بخفّة المفترس الصبور، بلا صوت، بلا أثر كأنّه طيفٌ من عصرٍ منسي.
بين القوّة والعزلة
ما بين الصمت والعاصفة، يعيش الدب في عالمه الخاص، ذاك الفضاء البعيد عن الضجيج البشري، عن صخب القطيع، عن الفوضى التي لا تشبهه. لا يطلب أحدًا، ولا يحتاج لأحد، هو ابن العزلة وسيدها. يتجوّل وحده، بخطى محسوبة، وكأنّه يقيس الأرض ببصيرته لا بقدميه. وعندما يُقرّر أن ينام، لا يبحث عن وسادة ولا عن مأوى مأهول بل ينزوي في كهف مظلم، لا يسمع فيه سوى تنفّسه، ونبض الغابة من حوله.
ومع ذلك، لا تنخدع بسطوة هيئته. الدب ليس آلة صيد لا تشبع. ليس ذلك القاتل الجائع الذي ترسمه القصص. بالعكس! كثير من الدببة لا تقتل لتأكل. تكتفي بالتوت البريّ، ببعض الجذور، أو عسلٍ تسلّق لأجله الشجرة كطفلٍ تائه في مطبخ. تخيّله الآن... كومة من اللحم والفرو والوزن، يتدلّى من غصن شجرة، يمدّ لسانه ببطء نحو خلية نحل، لا ليهدمها، بل ليحظى فقط، بمذاق قطرة عسل واحدة.
رفقته؟ ليست إلا حالة عابرة. مواسم التزاوج، أو تلك اللحظات النادرة حين يولد الصغير، فيتحوّل هذا الكائن الجبّار إلى أبٍ (أو أم!) يكاد يذوب حنانًا رغم أنيابه ومخالبه. لكن، حذارِ... إن اقتربت منه أكثر مما يجب، أو حاولت كسر دائرة حريّته، فالردّ لن يأتيك همسًا. لا. بل سيُدوّي زئيره كأنّه انشقاق جبل، وربما تسبقك رجلاك قبل أن تصل إلى فهم المعنى.
نوم طويل يشبه الموت
تُرى، ما الذي يجعل الدب كائنًا يشبه الأسطورة أكثر مما يشبه اللحم والدم؟ من أعجب ما في حكايته، ذلك الطقس الغريب الذي يُدعى "البيات الشتوي"، لا هو بالنوم العادي، ولا هو بالموت الكامل، بل حالة بين بين. شيء أشبه بالغياب الكبير، بانسحابٍ هادئ من الحياة، لا لأنّه يهرب منها، بل لأنّ له موعدًا مع السكون.
هل تخيّلتَ مخلوقًا ضخمًا، بدينًا، نبضه بطيء كإيقاع الجليد، يزحف إلى كهفٍ بارد لا يدخله سوى الصمت، ثم ينام؟ لا لليلة أو اثنتين، بل لأسابيع، وربما شهورًا. لا طعام. لا ماء. لا حركة تُذكر. فقط نبض بالكاد يُسمع، وأنفاس بطيئة كأنّها تخرج من حجر.
ينكمش جسده في الظلمة، وتُغلق عيناه على عالمٍ لا يراه أحد. وكلّ ما يعيش عليه في هذا الغياب... هو الدهن المخزون في خاصرته، تلك الوجبات التي التهمها في الصيف والخريف تصبح الآن وسادته، ومصدر حياته.
وفي لحظة من لحظات الربيع، حين تذوب الثلوج وتُغنّي الأرض من جديد، يستيقظ. يفتح عينيه على عالمٍ ظلّ يدور من دونه، كأنّه لم يفوّت شيئًا، كأنّ الزمان قد توقّف احترامًا لنومه الطويل. أليس ذلك أقرب إلى معجزة؟ كائن ينام موتًا... ثم يعود كما لو أنّ الحياة كانت تنتظره على الباب.
علاقة الإنسان بالدب
منذ أن رفع الإنسان رأسه نحو الجبال، ومنذ أن بدأ يسمع همسات الأشجار في الليل البارد، كان الدب هناك حاضرًا في الظلّ، في الحكايات، في الأحلام الغامضة التي تُروى على نارٍ تشتعل بين الأحجار.
لقد كان للدبّ في ذاكرة البشر وجهان أحدهما يُرعب، والآخر يُبجَّل. ستجده متربّعًا في أساطير الإسكندنافيين، حارسًا للمجهول، مقاتلًا لا يُقهر. وستسمع عنه في حكايات الهنود الحمر، كأنّه روحٌ تتقمّص الغابة نفسها، مرشدٌ، أو حتى سلفٌ يعود بهيئة فرو وصمتٍ عميق. بعض القبائل كانت تقيم طقوسًا كاملة إذا رأت أثره على التراب لا لصيده، بل لتحيّته، بل للاعتذار من حضوره.
ثم جاء الزمن الحديث، زمن الخرسانة والضوء الصناعي. وتغيّر كلّ شيء تقريبًا. أصبحت العلاقة بين الإنسان والدب أشبه برقصة متردّدة. من جهة، من يطارده، من يجرّه إلى سيرك مضاء بألوان زائفة، من يحاول أن يكسّر صمته ويحيله إلى وسيلة ترفيه ومن جهة أخرى، من يقف له حارسًا، لا بالسلاح، بل بالوعي. أناس يقيمون المحميّات، يسهرون على ألا يتحوّل إلى مجرّد ذكرى في كتاب مدرسي، يقاتلون كي تبقى الغابة مأهولة بصوته، كي لا يغيب كما غابت أشياء كثيرة قبل أن نلاحظ.
أنواع متعدّدة وسلوك مختلف
من قال إنّ الدببة كائنات متشابهة؟ من ظنّ أنّ كلّ دبٍ هو مجرّد كتلة فرو تمشي على أربع؟! ما أبعد الحقيقة عن هذا التصوّر الساذج.
في الزاوية الباردة من هذا الكوكب، هناك الدبّ القطبيّ، ذاك السيّد الأبيض، الذي يسير فوق الجليد وكأنّه خُلق منه، ينزلق بين الكتل المتجمّدة، يغطس في المياه القارصة بلا تردّد، كأنّ الدم لا يتجمّد في عروقه. صيّاد صامت، لا يحتاج إلى الجلبة ليُشعر الفرائس أنّها على وشك الرحيل.
وفي قلب الغابات الكثيفة، حيث الظلال تتراكم فوق بعضها، يقبع الدبّ البنيّ الضخم، المهيب، كأنّه جبل يتحرّك. أنفه قادر على كشف رائحة من بُعد لا يصدّقه عقل. وحين يغضب؟ الأفضل أن لا تكون قريبًا.
ثمّ هناك الدبّ الأسود، صاحب المزاج الخفيف. لا يحبّ العنف إلا إذا اضطر. يفضّل التسلق، التسلل، الاختفاء خلف الأشجار العالية بدلًا من الاشتباك. كأنّه شاعر خجول في جسد محارب قديم.
ولا تنسَ الدببة التي لم تحظَ بنفس الشهرة، كالدب الآسيويّ ذو الرقبة البيضاء، أو ذاك الكسلان الذي يمشي كما لو أنّه لا يحمل همًّا في الدنيا، يجرّ قدميه، يلعق الشِفاه ببطء، لا لأنّه جائع، بل لأنّه متأمّل.
وأخيرًا، ذاك الكائن الذي حيّر الجميع الباندا. آهٍ من الباندا! هل هو دبّ أم حلم؟ يجلس على مؤخرته كالأطفال، يمسك بعصا الخيزران كما لو كانت نايًا، يقضمها وكأنّه يستمع إلى موسيقى لا يسمعها أحد سواه. له وجه يشبه القصص المصوّرة، وسلوك لا يشي بأيّ رغبة في الشجار ومع ذلك، هو دبّ، بلا نقاش، ولو أنك لم تصدّق ذلك حين تنظر في عينيه الكسولتين.
الدبّ في خطر؟
هل الدبّ في خطر؟ للأسف نعم. بل ليس "مجرد خطر"، بل تهديد يزحف بصمت، كريح باردة لا يشعر بها أحد إلا بعد أن تتجمّد الأشياء.
الثلوج التي كانت يومًا أرضه، باتت تذوب تحت أقدامه. الغابات التي كانت منزله، تُجتثّ شجرةً بعد أخرى، كما لو أنّها لم تكن أبدًا. المدن تتوسّع، البشر يزحفون، العالم يتغيّر، وليس لصاحب الفرو الكثيف مكانٌ في هذه المعادلة الجديدة.
خذ مثلًا الدبّ القطبيّ، ذاك السيّد الأبيض في أقصى الشمال... لم يعُد له من الجليد ما يكفي ليصطاد أو ليستريح، لم يعُد يجد الفُقمات بسهولة، صار عليه أن يسبح أكثر، ينتظر أكثر، يتعب أكثر. وإن استمرّ الجليد في التراجع، فإنّ هذا الكائن الرائع قد يصبح مجرّد ذكرى. صورة على جدار. تمثال في متحف.
ومع ذلك... هناك ضوء في آخر النفق، وإن بدا باهتًا. جهود عالميّة تُبذل هنا وهناك، قوانين تُناقش، محميّات تُبنى، نشطاء يرفعون أصواتهم في وجه التجاهل. ليس كلّ البشر أعداء. هناك من يبكي فعلًا حين يرى دبًّا جائعًا يبحث عن ثلجٍ لا وجود له.
لمَ نهتمّ؟ لأنّ الدب ليس مجرد "حيوان". هو إشارة. علامة حيّة على ما يجري في كوكبٍ بدأ يفقد توازنه. هو جرس إنذار ناعم ومخيف في آنٍ معًا. إن سقط، فمن التالي؟ الشجرة؟ الطائر؟ الإنسان نفسه؟ ربّما لا يزال الوقت يسمح بأن نُعيد الأمور إلى نصابها، أن نحفظ للدب مساحته، وأن نحفظ لأنفسنا جزءًا من المعنى الذي بدأ يتلاشى.
كلمة أخيرة
الدبّ، ذاك المخلوق الذي ظنّه البعض رمزًا للوحشيّة، وآخرون رأوه كسولًا يتثاءب تحت ظلال الأشجار، وبعضهم رآه أسطورةً تمشي على أربع. لكن لو اقتربت أكثر لا كثيرًا حتى لا يُغضبك، فقط بما يكفي لتشعر بنبض وجوده... لاكتشفت أنّه ليس كما يُقال، ولا كما نُريد له أن يكون. هو كائن لا يهتمّ لتصنيفاتنا، ولا يبالي بأوصافنا. يعيش وفق إيقاعه الخاص، نبضه المنفصل، موسيقاه التي لا نسمعها إلّا إذا أصغينا بقلبٍ لا بعينٍ خائفة
حين يقرّر الاختباء، لا يكون جبانًا بل حكيمًا. وحين يخرج، لا يفعلها ليرضي فضولنا، بل لأنّه اختار الوقت. كلّ شيء لديه محسوب، رغم عفويّته التي تذهلنا. جسده؟ قصيدة عضليّة تروي قصة الطبيعة حين تقرّر أن تُظهر قوّتها. مشيته؟ درس في الثقة. نظرته؟ مزيج عجيب من حذر البدائيّ، وصفاء الكائن الذي لا يُجيد التمثيل
الدب ليس مجرّد كائن حيّ بل تجربة تأمّل حيّة. كلّما عرفت عنه أكثر، ازددت يقينًا بأنّ هذا الكوكب لا يزال يحتفظ بأسرار لم تُكتشف، بعجائب لا تُشرح، بخلطات مدهشة من التناقضات التي لا يجمعها عقل، لكن تجمعها الحياة.
أحيانًا يكون الجواب في نَفَس حيوان... في نظرة، في طريقة نوم، في صمت يسبق الزئير. وأحيانًا، حين تتأمّل الدب، تكتشف أنّ "الطبيعة" ليست موضوعًا في كتاب علوم، بل كيان ينبض، يتنفّس، يربّي أبناءه، ويحزن، ويضحك، ويخاف... ويحبّ، بطريقته.
ما هو نوع الدب الذي يثير اهتمامك أكثر؟ هل لديك معلومات إضافية ترغب في مشاركتها؟ شاركنا رأيك في التعليقات!