معلومات حول الشبنم
حين يتسلّل إلى أذنك ذاك الاسم الغريب "الشبنم"، قد تعتقد لوهلة أنّه عطرٌ غامض، أو نبتة ظلّيّة تنمو بعيدًا عن العيون، وربّما زهرة تنفتح فقط حين لا يراها أحد. لكن، هيهات الحقيقة تنقلب رأسًا على عقب! الشبنم ليس ورقةً خضراء ولا عبيرًا منسيًّا، بل هو طائر... نعم، طائر! ضخم. غريب. مُربك بحضوره الذي لا يُشبه أحدًا. لا يطير، أجل، لكنه لا يبالي بذلك أصلًا! فحين يمشي، يمشي وكأنّ الأرض تفرد له بساطها، وكأنّ الغابة تهمس لأشجارها: "ها قد مرّ الشبنم".
ما يحتاجه لا أجنحة، بل هيبته، وتلك الملامح التي توحي بأنّ في داخله سرًّا لم يُكتشف بعد. شيءٌ يدفعك لتتوقّف، ترفع حاجبيك، وربّما تبتلع ريقك، وأنت تُدرك أنّك أمام كائن لا يشبه ما اعتدت رؤيته في كُتب الطيور أو حدائق الحيوان. كأنّه مخلوق من زمنٍ آخر، أو من خيالٍ نسي أن يعتذر حين أصبح حقيقة.
من هو الشبنم؟
طائر؟ نعم. لكن لا تحكم عليه من الكلمة وحدها. فـ"الطيران" ليس من مواهبه، ولا هو حُلم يراوده أصلًا! هو يسير، وبسيرانه يُربك الأرض. يُشبه النعامة؟ ربّما في الهيكل... لا أكثر. فهناك شيءٌ ما، شيء غامض يَعلَق في قلبك حين تقع عيناك على صورته، كأنّك رأيت ظلّ مخلوقٍ من عصرٍ لم يعد لنا، أو شبح بقايا ديناصورٍ توارى خلف زَخم الريش والأسطورة.
ريشه داكن، كأنّه ليلٌ بلا نجوم، عينيه تقولان ما لا يُقال، كأنّ خلفها قصصًا عن البقاء، والاختباء، والدهشة. وهناك على رأسه، ما يُشبه الخوذة أو التاج أو عُرفٌ غريب ينبت بعناد، كأنّه وُلد ليكون غريبًا، لا يشبه غيره، ولا يسمح لأحد أن يُشبّهه بأحد.
موطنه؟ بعيد... بعيد إلى درجة أن أغلب البشر لن يروه أبدًا. أعماق غينيا الجديدة، شمال أستراليا، في تلك الغابات الكثيفة التي لا يُمكن للضوء أن يدخلها بسهولة، هناك يختبئ الشبنم. أو لنقل هناك يسكن، دون أن يطلب من أحد أن يفهمه.
ولعلّ قلّة من سمعوا باسمه، ولكن من عرفه، من تمكّن يومًا من رؤيته أو حتى دراسته، يُدرك على الفور أنّه ليس مجرّد طائر آخر في قائمة الطيور الغريبة. لا. هو حكاية كاملة، لا تكفيها سطور ولا تتّسع لها الصور. هو الشبنم. الطائر الذي لا يطير، ولا يحتاج لأن يطير.
هيئته التي لا تُشبه أحد
تحدّق فيه، ثم ترمش، ثم تحدّق مرّةً أخرى. ماذا ترى؟ أهو طائر؟ مخلوق من أسطورة قديمة؟ أم كائن من خيال كاتب كان يحلم وهو غافٍ تحت شجرة استوائية؟! الشبنم لا يُشبه أحدًا. لا طائرًا عرفناه، ولا كائنًا مرّ من بين صفحات كُتبنا. رأسه صغير، بشكل يكاد يُخالف قوانين التوازن، ورقبته... تلك الرقبة! زرقاء، عارية، وكأنها جلدٌ لم يكتمل نموّه، أو لعلها مجرّد قناع لطائر لا يُحبّ أن يُكشف.
المنقار؟ كأنّك ترى نسخة مشوّهة من منقار ديك رومي، لكنّها أقسى، أكثر حِدّة، تحمل شيئًا من الغموض. أمّا التاج، أو "الكاسك"، ذلك الشيء الذي يعلو رأسه كأنّه خوذة من معركة لم تنتهِ فهو ليس زينة. لا تظنّ ذلك. بل هو أداة سلاح درعٌ للرأس حين يندفع بين الأشجار بسرعة جنونيّة، أو حين يُضطر إلى الاشتباك في معركة ليست له، لكنه لا يفرّ منها.
ريشه؟ ريش؟ لا، لا. هذا ليس ريشًا كما نعرفه. هو أشبه بشعرٍ خشنٍ نافِر، أسود أو بنيّ غامق، غير مرتّب، لا يُساير النسق ولا يعرف التهذيب. يغطّي الجسد بعشوائيّة مُربكة، ويمنحه هيئة بدائية حيوانية كأنّ الطبيعة قرّرت أن تخلق شيئًا يُربك كلّ قواعد الجمال، ويثير الإعجاب رغمًا عن العين.
ثم هناك القدمان أو لِنقُل العَمودان، لأنهما ليستا مجرّد ساقين عاديّتين. طويلتان، صلبتان، وكلّ منهما يحمل مخلبًا، لا سكينًا طبيعيًّا قد يودي بحياة من يقترب في لحظة خطأ.
الخطر؟ نعم، الشبنم ليس صديقًا للتطفّل. يُقال إنّه من أخطر الطيور على الإطلاق. لا لأنه يحبّ إيذاء الآخرين، بل لأنّه ببساطة لا يثق بأحد. ولأنّ الدفاع بالنسبة له، ليس خيارًا، بل غريزة. غريزة تُفَعّل بلا تردّد.
سلوك غريب ولكن منطقي
في عالمٍ يضجّ بالأصوات، يُفضّل الشبنم الصمت. لا يحبّ الأضواء، ولا التجمعات، ولا الاستعراضات. هو كائن يمشي وحده، كما لو أن الغابة خُلقت له فقط، وكأنّه لا يريد من هذا العالم سوى ظلّ الأشجار وهدير الريح في الأغصان.
تراه يتنقّل بهدوء بين الزوايا المظلمة، يلتقط ثمرة هنا، أو حشرة هناك، دون أن يُحدث ضجيجًا. لا يُحبّ أن يُراقب، ولا أن يُزعج. وإذا اقتربت منه؟ سيتراجع. لا من ضعف، بل من فلسفةٍ بسيطة: لا حاجة للمعركة إن كان بإمكانك تجنّبها.
لكن لا تخطئ. لا تنخدع بذلك التماسك الظاهري. إذا شعر بالخطر، إن أحسّ أنّ الزاوية تضيق، يتحوّل هذا الطائر إلى شيء آخر شيء لا يُشبهه أبدًا.
تصبح قدماه كأنّها مقذوفات، سلاحان طبيعيّان لا رحمة فيهما. ركلة واحدة؟ قد تعني النهاية. نهاية المواجهة، وربّما أكثر من ذلك. إصاباتٌ خطيرة، نزيف، كسور، وربّما موت... أجل، الموت.
وهذا ليس خيالًا. هناك قصص، حقيقية، غريبة، مُقلقة، عن أُناس اقتربوا أكثر مما ينبغي، وربّما تصرّفوا بطيش، فكان الثمن باهظًا. الشبنم لا يهاجم عبثًا. لا يركض خلف أحد ليرضِي نزعة عدوانيّة. لكنه حين يشعر بأنّ الهرب لم يعد على الطاولة يتحوّل إلى عاصفة، إلى إعصارٍ من مخالب وركلات لا ترحم.
وكلّ هذا، رغم غرابته، يبدو منطقيًّا جدًّا حين تفهم طبيعته. كائن يعيش في الغابة، وسط الخطر، وحده لا مجال فيه للضعف أو التردّد.
بيضة كبيرة، ومسؤوليّات معكوسة
تخيّل أن تضع بيضة ضخمة، ثمّ ترحل! هذا بالضبط ما تفعله أنثى الشبنم، بلا خجل، بلا ندم. تضع بيضها الأخضر المتوهّج، تتفقّد المكان لحظة، ثم تمشي مبتعدة كأن شيئًا لم يكن. مَن يبقى؟ الذكر، وحده، في قلب الغابة، يعتني، يُحضن، يُراقب، يُفكّر، ويتقلّب على أطراف الريش.
عكس كلّ ما اعتدنا عليه في ممالك الطيور، هو لا يكتفي بالحضانة، بل يتحوّل إلى أبٍ صارم، حنون، يقف كجدارٍ بين فراخه والعالم الخارج عن السيطرة. هو الذي يدفيء البيض بأطراف جسده، يُغلق جناحيه حول الحياة القادمة، وينتظر أيّامًا، ولياليَ، طويلة، بلا كلل، ولا ملل.
وحين تفقس الفراخ الصغيرة وتخرج إلى هذا العالم الغريب؟ لا تلمح الأمّ في الأفق. هي بعيدة، ربما مع ذكر آخر، تبدأ الدورة من جديد، دون أن تلتفت لما خَلّفته. أمّا هو، الأب، الحارس، المعلّم، فيُرافق صغاره ويُرشدهم. يُعلّمهم كيف يُفرّقون بين الفاكهة السليمة والثمار السامة، كيف يهربون، كيف يُراقبون، وكيف يثقون بأرجلهم أكثر من أجنحتهم.
هذا التبادل المذهل للأدوار جعل من الشبنم موضوعًا دائمًا على طاولة العلماء. لا يشبه أحدًا. لا يتصرّف كبقيّة الطيور. لا شكلًا، ولا عقلًا، ولا قلبًا.
كلّ شيء فيه يقول: "أنا لستُ من هنا". كائنٌ مُنعزل، لكنّه أبٌ مخلص. لا يهمّه أن يُصفّق له أحد. يكفيه أن يبقى صغاره أحياء في غابة لا ترحم.
هل الشبنم مُهدّد؟
الجواب القصير؟ نعم. الجواب الأطول؟ مؤلم، غامض، ومُحبط إلى حدّ السُخرية. هذا الطائر الغريب، الذي يسير كأنّه ظلٌّ نُسي في الغابة، لم يعد يجد الغابة. لم تعد الأشجار كما كانت، ولا الطرق خفيّة كما يحبّ. الإسمنت يمتد، والمناشير تغنّي أغاني الموت، والمدن تتضخّم كأنّها وحوش تبتلع الهامش وما بعده. والغابة؟ تتراجع، تتقلّص، تختنق. ومعها يختنق الشبنم.
مُصنّف الآن ضمن المهدّدين، وكأنّنا نكتفي بوضع ملصق على الحافة الأخيرة قبل السقوط. وما يُثير الغثيان؟ أن أغلب الناس لم يسمعوا باسمه أصلًا. لا يعرفونه. لا يشعرون بغيابه، لأنهم لم يشعروا أبدًا بوجوده. شيء لا يُرَى، لا يُحَبّ، لا يُحمى.
لكن، الشبنم ليس زينة بيولوجيّة. ليس مجرّد "كائن لطيف" مهدّد بالزوال. هو موزّع للبذور، هو سفير خفيّ لدورة الحياة في الغابة، هو عجلة صغيرة لكن أساسيّة في آلة الطبيعة. غيابه... لن يكون فجائيًّا، بل متدرّجًا، صامتًا، كالموت البطيء. لكنّ تأثيره؟ سيأتي لاحقًا، موجعًا، بلا صوت إنذار. الشبنم لا يصرخ، لا يطلب النجدة. فقط ينسحب. كما لو أنّه يقول لنا: "أنتم لا تريدونني؟ لا بأس... ستعرفون لاحقًا كم كنتم بحاجة لي".
الشبنم في الثقافة والخيال
رغم أنّه لا يتصدّر الحكايات ولا يظهر في الرسوم المتحرّكة التي يعرفها الأطفال، إلا أنّ هذا الطائر، الغريبُ في حضوره والصامتُ في صخبه، كان كافيًا لإشعال خيوط من الخيال لدى من صادفه وجهًا لوجه. من رآه، لم ينسَه. ومن تخيّله، لم يعد يرى الطيور كما كانت.
بعضهم قال: "إنّه الديناصور الذي نجا". آخرون وصفوه بـ"روح الغابة التي تسير على ساقين". بل هناك قبائل، في زوايا منسية من هذا الكوكب، ما زالت حتى اليوم تهمس باسمه بخشوع، وتمنع صغارها من الاقتراب منه، كما لو كان كيانًا خارج التصنيف. لا طائر، ولا وحش، بل شيء ثالث... شيء بين العالمين.
وحين تسلّلت الأساطير إلى الأرواح، قيل إنّ الشبنم ليس مجرّد طائر، بل حارسٌ للأسرار القديمة. إنّه يحمل أرواح الغابة على ريشه الكثيف، وينتقل بخفّة بين عوالم لا نراها. لا أحد يراه حين يدخل، ولا حين يخرج. هو موجود... وغير موجود.
قد تضحك من هذه الحكايات. طبيعي. نحن لا نُصدّق شيئًا إلا حين يُقاس أو يُحاصر بكاميرا. لكن... قف أمام الشبنم. دعه ينظر إليك بتلك العين الباردة، اللامبالية، العميقة... وستشعر، دون أن تفهم، بأنّ هناك قصّة لم تُحكَ بعد. أنّه يعرف شيئًا لا تعرفه، شيئًا لن يُقال.
في النهاية
الشبنم؟ لا، ليس مجرّد طائر غريب مشيته تشبه ظلّ محاربٍ عجوز، ولا هو مجرد حيوان لا يطير. هو لغز حيّ. مخلوق يسكن المسافة الضيّقة بين الجمال والرهبة، بين الحنان والبطش. فيه شيءٌ من سكون الليل، وشيءٌ من فوضى العاصفة. كأنّ الطبيعة حين صاغته، كانت في مزاجٍ متقلّب، مُرهَق... وربما حزين. طائر لا يريد أن يُلاحَظ، لكنه يترك أثرًا في كلّ من لمح صمته.
في المرّة القادمة، حين تُصادف سطرًا يتحدث عن الطيور التي نسيت كيف تطير، لا تترك عقلك يقف عند النعامة أو البطريق. دع خيالك ينزلق إلى هناك... إلى عمق الغابة، حيث المطر لا يتوقف، والأرض تنبض، وهناك، بين الأشجار الثقيلة، يركض الشبنم. لا ليهرب. بل ليبقى. ليُبقي شيئًا من التوازن قائمًا في عالم يتهاوى. وإن رأيته ولو عرضًا في صورة باهتة أو مقطع فيديو صامت لا تمرّ مرور العابر. توقّف. خذ نفسًا. انظر مجددًا. فأنت أمام طائر لا يُحلّق بجناحين، بل بوجوده. طائر لا يصعد إلى السماء، بل يغوص في الأرض ويصعد بك أنت، إن أذنت له.