معلومات حول البجع
معلومات حول البجع
حين يتنفّس البحر، وتعلو زفراته في تموّجات متلاحقة، كأنّه يوشك أن يغنّي، تتراقص الأمواج في حضرة النسيم كأنّها ترتدي أثواب الندى وتدور في رقصةٍ قديمةٍ منسيّة... وفوق هذا المشهد المتقلب، ينساب كائنٌ أبيض كأنّه طيفٌ من نورٍ نزل من السماء خطأً.
طائر؟ نعم، طائر. لكن، ليس كأي طائر. بجعة، بجناحين كالصحف القديمة التي كانت تحمل الأخبار الدافئة، وعنقٍ مسترسل كأنّه السطر الأخير في قصيدة حبّ لم تكتمل، تسبح في الهواء لا لتُريَنا كيف يطير الطير، بل لتُخبرنا، بهدوءٍ شديد، أن الجمال لا يصنع ضجيجًا.
أتعلم؟ إنّ البجع ليس مجرّد مخلوق مائيّ يحلّق أو يصيد أو يعوم. لا، ليس الأمر بهذه السطحية. هو اختزالٌ للرقة إذا تجسّدت، وأناقةٍ تسبح لا تمشي، وصبرٍ لم تبلغه قلوبنا مهما ادّعينا، صبرٍ طويل كليلٍ بلا قمر.
مجرّد أن تُلقي نظرةً على سربٍ من طيور البجع، وهي تشقّ سطح الماء بانسجامٍ هائل، كأنّها موسيقى صامتة تُعزف من دون آلات، تشعر بأنّ شيئًا في داخلك يهدأ، كأنّ فوضى العالم توقّفت لوهلة... أو كأنّ الزمن نسي نفسه.
حين يتنفّس البحر، وتعلو زفراته في تموّجات متلاحقة، كأنّه يوشك أن يغنّي، تتراقص الأمواج في حضرة النسيم كأنّها ترتدي أثواب الندى وتدور في رقصةٍ قديمةٍ منسيّة... وفوق هذا المشهد المتقلب، ينساب كائنٌ أبيض كأنّه طيفٌ من نورٍ نزل من السماء خطأً.
طائر؟ نعم، طائر. لكن، ليس كأي طائر. بجعة، بجناحين كالصحف القديمة التي كانت تحمل الأخبار الدافئة، وعنقٍ مسترسل كأنّه السطر الأخير في قصيدة حبّ لم تكتمل، تسبح في الهواء لا لتُريَنا كيف يطير الطير، بل لتُخبرنا، بهدوءٍ شديد، أن الجمال لا يصنع ضجيجًا.
أتعلم؟ إنّ البجع ليس مجرّد مخلوق مائيّ يحلّق أو يصيد أو يعوم. لا، ليس الأمر بهذه السطحية. هو اختزالٌ للرقة إذا تجسّدت، وأناقةٍ تسبح لا تمشي، وصبرٍ لم تبلغه قلوبنا مهما ادّعينا، صبرٍ طويل كليلٍ بلا قمر.
مجرّد أن تُلقي نظرةً على سربٍ من طيور البجع، وهي تشقّ سطح الماء بانسجامٍ هائل، كأنّها موسيقى صامتة تُعزف من دون آلات، تشعر بأنّ شيئًا في داخلك يهدأ، كأنّ فوضى العالم توقّفت لوهلة... أو كأنّ الزمن نسي نفسه.
البجع أكثر من مجرد طائر
البجع... يا له من مخلوقٍ غريب، لا هو بطائرٍ عابرٍ في سربٍ مهاجر، ولا هو من تلك الكائنات التي تمرُّ دون أثر. حين تتأمله جيّدًا، تدرك أنه أكثر من مجرد طائر. هو مشهد بصريّ، لوحةٌ متحرّكة من الهدوء والجمال، مزيجٌ عجيب من الرشاقة والهيبة. ليس فقط بريشه الناصع أو حجمه الكبير، بل بكينونته التي توحي وكأنّه ينتمي لعالمٍ أرقى من الطيران وحده.
منقاره العجيب، ذاك الذي يشبه كيسًا جلديًا مترامي الأطراف، ليس زينةً وُضعت عبثًا. بل هو أداة حياة. ترى البجع يغوص برأسه في الماء، ثم يخرج وفي منقاره كنزٌ من الأسماك الصغيرة، مخزَّنة مؤقتًا في ذاك الكيس كأنها وليمةٌ مؤجلة. مشهد يُذهل من لا يعرف، ويُدهش حتى من اعتاد رؤيته.
أضف إلى ذلك أن ألوانه ليست دائمًا بيضاء كما يشاع... فبعضه تتخلّله بقعٌ سوداء، وبعضه الآخر خطوط رمادية تلمع حين تلامسها الشمس، وكأنّ الطبيعة قرّرت التوقيع على هذا المخلوق بريشتها الخاصة، في لحظة إلهام لا تتكرّر.
البجع... يا له من مخلوقٍ غريب، لا هو بطائرٍ عابرٍ في سربٍ مهاجر، ولا هو من تلك الكائنات التي تمرُّ دون أثر. حين تتأمله جيّدًا، تدرك أنه أكثر من مجرد طائر. هو مشهد بصريّ، لوحةٌ متحرّكة من الهدوء والجمال، مزيجٌ عجيب من الرشاقة والهيبة. ليس فقط بريشه الناصع أو حجمه الكبير، بل بكينونته التي توحي وكأنّه ينتمي لعالمٍ أرقى من الطيران وحده.
منقاره العجيب، ذاك الذي يشبه كيسًا جلديًا مترامي الأطراف، ليس زينةً وُضعت عبثًا. بل هو أداة حياة. ترى البجع يغوص برأسه في الماء، ثم يخرج وفي منقاره كنزٌ من الأسماك الصغيرة، مخزَّنة مؤقتًا في ذاك الكيس كأنها وليمةٌ مؤجلة. مشهد يُذهل من لا يعرف، ويُدهش حتى من اعتاد رؤيته.
أضف إلى ذلك أن ألوانه ليست دائمًا بيضاء كما يشاع... فبعضه تتخلّله بقعٌ سوداء، وبعضه الآخر خطوط رمادية تلمع حين تلامسها الشمس، وكأنّ الطبيعة قرّرت التوقيع على هذا المخلوق بريشتها الخاصة، في لحظة إلهام لا تتكرّر.
موطن البجع حكاية تبدأ من البحيرات وتنتهي في البحر
ليست للبحيرات وحدها حكاية، بل للبجع معها روايةٌ كاملة، تبدأ هناك حيث يسكن الهدوء وتُغنّي الضفادع عند المغيب، ثمّ تمضي متوغّلة في خيال الأرض، حتى تلتقي بالمحيط... ذاك الكائن الأزرق الغامض، الذي يهمس للمخلوقات ولا يصرخ.
تراه، ذاك البجع، يتنقّل بين المستنقعات التي تنبض بالعشب والصمت، وبين البحيرات التي تنام على صدر الجبال، وقد يحلّق في أفقٍ لا يعرفه غيره، ثمّ يهبط برفقٍ على سطح البحر، كما يهبط الحلم في آخر النوم... نعم، هكذا، بلا صوتٍ، بلا شوشرة، وكأنّ جناحيه يخافان أن يجرحا جلد الماء الرقيق. تخيّله وهو يلمس الموج، يطأه بخفّة، كأنّه يسير فوق سحابةٍ متردّدة لا تعرف إن كانت سماءً أم ماء.
بعضهم أقصد بعض أفراد هذا الطائر النبيل يجد في المياه العذبة وطنًا، لا سيّما حين يحين وقت العشّ والحبّ، حين يصير كلّ شيءٍ حوله أكثر دفئًا، أكثر حنوًّا. أمّا البعض الآخر، فقد ربط قلبه بمذاق الملوحة، وانجذب إلى مرافئ الأسماك الطازجة، حيث الحياة صاخبة والحركة لا تهدأ. وهناك، في أحضان البحر، يجد ما يُغذّيه، ويمنحه ما يحتاجه ليظلّ طافيًا، عاليًا، حرًّا كما ينبغي للبجع أن يكون.
ليست للبحيرات وحدها حكاية، بل للبجع معها روايةٌ كاملة، تبدأ هناك حيث يسكن الهدوء وتُغنّي الضفادع عند المغيب، ثمّ تمضي متوغّلة في خيال الأرض، حتى تلتقي بالمحيط... ذاك الكائن الأزرق الغامض، الذي يهمس للمخلوقات ولا يصرخ.
تراه، ذاك البجع، يتنقّل بين المستنقعات التي تنبض بالعشب والصمت، وبين البحيرات التي تنام على صدر الجبال، وقد يحلّق في أفقٍ لا يعرفه غيره، ثمّ يهبط برفقٍ على سطح البحر، كما يهبط الحلم في آخر النوم... نعم، هكذا، بلا صوتٍ، بلا شوشرة، وكأنّ جناحيه يخافان أن يجرحا جلد الماء الرقيق. تخيّله وهو يلمس الموج، يطأه بخفّة، كأنّه يسير فوق سحابةٍ متردّدة لا تعرف إن كانت سماءً أم ماء.
بعضهم أقصد بعض أفراد هذا الطائر النبيل يجد في المياه العذبة وطنًا، لا سيّما حين يحين وقت العشّ والحبّ، حين يصير كلّ شيءٍ حوله أكثر دفئًا، أكثر حنوًّا. أمّا البعض الآخر، فقد ربط قلبه بمذاق الملوحة، وانجذب إلى مرافئ الأسماك الطازجة، حيث الحياة صاخبة والحركة لا تهدأ. وهناك، في أحضان البحر، يجد ما يُغذّيه، ويمنحه ما يحتاجه ليظلّ طافيًا، عاليًا، حرًّا كما ينبغي للبجع أن يكون.
البجع في طيرانه دهشة معلّقة في الهواء
هل جربت أن ترفع رأسك ذات مساء، بينما نسيم البحر يداعب جبهتك، وتُفاجأ بجناحين يعبران السماء بصمتٍ شبه خرافيّ؟ طائر ضخم، لا تتوقّع منه خفّة الطيران، ومع ذلك يُحلّق. لا، بل يُحلّق كما لا يفعل سواه.
البجع، ذاك العملاق الرقيق، حين يقرّر أن يرتفع، لا يفعل ذلك خلسة. أولاً، يفتح جناحيه بكل ما في العالم من اتّساع، كأنّه يمدّ ذراعيه لمعانقة السماء، ثمّ يضرب بهما الهواء كما لو كان يشقّ طريقًا بين الغيوم. تظنّ أنّه سيتعثّر، لكنّه لا يفعل. يرتفع أكثر. ثمّ أكثر. حتى يصير مجرّد لطخة بيضاء بعيدة، كأنّها فكرةٌ جميلة هربت من عقل شاعر.
وعندما يطير في أسرابه، يبدأ العرض. لا يُصدرون صوتًا، لا يضحكون ولا يصرخون، لكنّ تشكيلهم في السماء يشبه لحنًا مرئيًّا، غالبًا على هيئة V عجيبة، لا يختارونها عبثًا، بل كأنّها اتفاقٌ قديم بينهم. واحدٌ يتقدّم، يفتح الطريق، يواجه النسيم كالدرع، ثمّ ينسحب بهدوء، ليتقدّم آخر. لا خلاف، لا نزاع، لا ضوضاء. نظام خفيّ، بلا مجلس قيادة، بلا اجتماعات، فقط تفاهم مكتوم بين أجنحة تفهم بعضها بلا كلام.
هل جربت أن ترفع رأسك ذات مساء، بينما نسيم البحر يداعب جبهتك، وتُفاجأ بجناحين يعبران السماء بصمتٍ شبه خرافيّ؟ طائر ضخم، لا تتوقّع منه خفّة الطيران، ومع ذلك يُحلّق. لا، بل يُحلّق كما لا يفعل سواه.
البجع، ذاك العملاق الرقيق، حين يقرّر أن يرتفع، لا يفعل ذلك خلسة. أولاً، يفتح جناحيه بكل ما في العالم من اتّساع، كأنّه يمدّ ذراعيه لمعانقة السماء، ثمّ يضرب بهما الهواء كما لو كان يشقّ طريقًا بين الغيوم. تظنّ أنّه سيتعثّر، لكنّه لا يفعل. يرتفع أكثر. ثمّ أكثر. حتى يصير مجرّد لطخة بيضاء بعيدة، كأنّها فكرةٌ جميلة هربت من عقل شاعر.
وعندما يطير في أسرابه، يبدأ العرض. لا يُصدرون صوتًا، لا يضحكون ولا يصرخون، لكنّ تشكيلهم في السماء يشبه لحنًا مرئيًّا، غالبًا على هيئة V عجيبة، لا يختارونها عبثًا، بل كأنّها اتفاقٌ قديم بينهم. واحدٌ يتقدّم، يفتح الطريق، يواجه النسيم كالدرع، ثمّ ينسحب بهدوء، ليتقدّم آخر. لا خلاف، لا نزاع، لا ضوضاء. نظام خفيّ، بلا مجلس قيادة، بلا اجتماعات، فقط تفاهم مكتوم بين أجنحة تفهم بعضها بلا كلام.
البجع وعلاقته بالأسطورة بين الحُبّ والوفاء
ما إن تذكر البجع، حتّى ينفتح بابُ الأساطير تلقائيًّا. ليس لأنّ الطائر ذاته خرافيّ، بل لأنّ فيه ما يُغري الخيال، ويُربك العقل. رقّته، صمته، نظرته العميقة التي تُشبه عيني عاشق خذلته الحياة، كلّها دفعت البشر إلى نسج آلاف الحكايا حوله... بعضها رومانسيّ، وبعضها موجِع حتى الهُيام.
تقول واحدة من تلك الحكايات العتيقة، التي تهرّأت أطرافها بفعل التكرار، إنّ البجعة إذا فقدت شريكها، لا تعود تبحث عن آخر. تكتفي بالذكرى، تسكن العزلة، وتُكمل حياتها صامتة، كما لو أنّها لم تولد إلا نصفًا. طائرٌ أبيضٌ، لكنّه لا ينسى، لا يبدّل، لا يساوم على العاطفة. هل هذا صحيح؟ من يدري؟ لكنّنا نحبّ أن نصدّق.
بل هنالك من قال، بل همس، إنّ البجعة تغنّي مرّةً واحدة فقط عند الموت. لحنٌ أخير، حزين، كأنّه اعتذار للعالم على الرحيل. لا أحد أثبت الأمر علميًّا، ولا أحد سمع تلك النغمة، ومع ذلك، ظلّت الفكرة حيّة، تنتقل من ضمير إلى آخر، لأنّها تعبّر عن شيءٍ أعمق من الحقيقة عن الحنين، عن الفقد، عن الإخلاص.
ولذا، لم يكن غريبًا أن تظهر البجعة في قصص الحبّ القديمة، ولا في لوحات الفنانين حين كانوا يبحثون عن رمزٍ لا يُفسَّر بسهولة. إنّها ليست طائرًا فحسب، بل استعارة تمشي، حنين مجنّح، ذاكرة بيضاء لا تنطفئ.
ما إن تذكر البجع، حتّى ينفتح بابُ الأساطير تلقائيًّا. ليس لأنّ الطائر ذاته خرافيّ، بل لأنّ فيه ما يُغري الخيال، ويُربك العقل. رقّته، صمته، نظرته العميقة التي تُشبه عيني عاشق خذلته الحياة، كلّها دفعت البشر إلى نسج آلاف الحكايا حوله... بعضها رومانسيّ، وبعضها موجِع حتى الهُيام.
تقول واحدة من تلك الحكايات العتيقة، التي تهرّأت أطرافها بفعل التكرار، إنّ البجعة إذا فقدت شريكها، لا تعود تبحث عن آخر. تكتفي بالذكرى، تسكن العزلة، وتُكمل حياتها صامتة، كما لو أنّها لم تولد إلا نصفًا. طائرٌ أبيضٌ، لكنّه لا ينسى، لا يبدّل، لا يساوم على العاطفة. هل هذا صحيح؟ من يدري؟ لكنّنا نحبّ أن نصدّق.
بل هنالك من قال، بل همس، إنّ البجعة تغنّي مرّةً واحدة فقط عند الموت. لحنٌ أخير، حزين، كأنّه اعتذار للعالم على الرحيل. لا أحد أثبت الأمر علميًّا، ولا أحد سمع تلك النغمة، ومع ذلك، ظلّت الفكرة حيّة، تنتقل من ضمير إلى آخر، لأنّها تعبّر عن شيءٍ أعمق من الحقيقة عن الحنين، عن الفقد، عن الإخلاص.
ولذا، لم يكن غريبًا أن تظهر البجعة في قصص الحبّ القديمة، ولا في لوحات الفنانين حين كانوا يبحثون عن رمزٍ لا يُفسَّر بسهولة. إنّها ليست طائرًا فحسب، بل استعارة تمشي، حنين مجنّح، ذاكرة بيضاء لا تنطفئ.
كيف يعيش البجع؟ وهل هو طائر اجتماعيّ؟
لو ظننت للحظة أن البجع من أولئك الطيور التي تهوى العزلة وتختبئ خلف أجنحتها فأنت لم ترَ البجع حقًا. هذا الطائر لا يحبّ أن يكون وحيدًا. بل، في الحقيقة، يزدهر فقط حين يكون مع الآخرين. لا شيء فيه يوحي بالانطواء، بالعكس تمامًا، كلّ شيء فيه يصرخ بالحياة الجماعيّة: مشيته المتناغمة مع القطيع، تحليقه كأنّه جزء من لوحة حيّة، وحتّى صيده لا يتمّ إلا يدًا بيد، منقاره بمنقار الآخر.
عندما يحين وقت الطعام، لا يتفرّقون كالجائعين، بل يتجمّعون كما لو أنّهم يخطّطون لشيءٍ كبير. يرسمون بأجسادهم دائرة مائية، دائرة لا تُرى من الأعلى إلّا كأنّها وشم على وجه البحيرة، ثمّ يبدأون بالدفع الجماعيّ للأسماك نحو المركز، كأنّهم فرقة راقصة تُتقن كلّ خطوة، وكلّ رفرفة، وكلّ نبضة.
قد تقول: لكن صوته؟ نعم، صوته! صوت البجعة قد لا يكون ذلك اللحن الناعم الذي ينساب في الأذن كهمسة، بل فيه شيءٌ من الخشونة، شيءٌ يشبه الحصى إذا سقط في بحيرةٍ صامتة. ومع ذلك لا شيء يُزعج. لا شيء ينفّر. لأنّ ما يُدهشك ليس الصوت، بل حضوره. حضورٌ هادئ، متماسك، يُشعرك أنّ هذا الكائن الأبيض لا يحتاج ليرضي أحدًا، يكفيه أن يكون كما هو.
البجع لا يعيش منفردًا، ولا يعرف العيش فردًا. هو طائر يعرف أنّ في الجماعة قوّة، وفي التعاون بقاء، وفي المشاركة حياة.
لو ظننت للحظة أن البجع من أولئك الطيور التي تهوى العزلة وتختبئ خلف أجنحتها فأنت لم ترَ البجع حقًا. هذا الطائر لا يحبّ أن يكون وحيدًا. بل، في الحقيقة، يزدهر فقط حين يكون مع الآخرين. لا شيء فيه يوحي بالانطواء، بالعكس تمامًا، كلّ شيء فيه يصرخ بالحياة الجماعيّة: مشيته المتناغمة مع القطيع، تحليقه كأنّه جزء من لوحة حيّة، وحتّى صيده لا يتمّ إلا يدًا بيد، منقاره بمنقار الآخر.
عندما يحين وقت الطعام، لا يتفرّقون كالجائعين، بل يتجمّعون كما لو أنّهم يخطّطون لشيءٍ كبير. يرسمون بأجسادهم دائرة مائية، دائرة لا تُرى من الأعلى إلّا كأنّها وشم على وجه البحيرة، ثمّ يبدأون بالدفع الجماعيّ للأسماك نحو المركز، كأنّهم فرقة راقصة تُتقن كلّ خطوة، وكلّ رفرفة، وكلّ نبضة.
قد تقول: لكن صوته؟ نعم، صوته! صوت البجعة قد لا يكون ذلك اللحن الناعم الذي ينساب في الأذن كهمسة، بل فيه شيءٌ من الخشونة، شيءٌ يشبه الحصى إذا سقط في بحيرةٍ صامتة. ومع ذلك لا شيء يُزعج. لا شيء ينفّر. لأنّ ما يُدهشك ليس الصوت، بل حضوره. حضورٌ هادئ، متماسك، يُشعرك أنّ هذا الكائن الأبيض لا يحتاج ليرضي أحدًا، يكفيه أن يكون كما هو.
البجع لا يعيش منفردًا، ولا يعرف العيش فردًا. هو طائر يعرف أنّ في الجماعة قوّة، وفي التعاون بقاء، وفي المشاركة حياة.
ماذا يأكل البجع؟ وهل يصطاد كما النسر أو كالصقر؟
عندما ترى البجع، بجسده الكبير، ومنقاره الطويل كأنّه سيفٌ من نورٍ باهت، قد تظنّ لوهلةٍ أنّه صيّاد شرس، كالنسر الجبليّ، أو كصقرٍ يحكم الفضاء. لكن الحقيقة لا. هو ليس كذلك أبدًا. لا يهاجم، لا يُفترس، ولا يمزّق ضحاياه بمخالب، فليس له مخالب أصلاً. هو صيّاد من نوعٍ آخر، هادئ، دقيق، وربما شاعر أيضًا في طريقته.
يعتمد على منقاره العجيب، ذلك الكيس العريض الذي يشبه مغرفة عملاقة مرنة، تهبط بسرعة على صفحة الماء ثمّ تلتقط سمكة صغيرة، تُرفرف، تقاوم، تحاول الإفلات. أحيانًا ينجح، وأحيانًا تسقط السمكة من بين أنيابه، كما تسقط فكرة جميلة من رأس كاتبٍ مشتّت. فيُعيد الكرة، دون غضب، دون ضجيج، كأنّه يقول: لا بأس، الحياة فرصة تتكرّر.
البجع لا يبحث عن الولائم، لا يطارد الغزلان، ولا يلتفت للفرائس الثقيلة. طعامه، غالبًا، هو الأسماك الصغيرة، الرشيقة، التي تنساب بين طيّات الماء كأنّها تهمس له بأن يلحق بها. وبعض البجع ينوّع قليلاً؛ يضيف إلى قائمته الضفادع هنا وهناك، وربما يرقات، وربما شيئًا من الطحالب إن ضاقت السبل، لكنّ السمك... السمك هو سيّده، هو عشقه الأول، وهو سرّ بقاءه.
هو لا يصطاد كالصقر، ولا ينقضّ كالعقاب. هو يغطس برأسه، لا بجسده، يختار طريقًا أقلّ عنفًا، وأكثر أناقة، ثمّ ينهض مبلولًا قليلًا، متخمًا قليلًا، لكنّ فيه وقار الماء، وبرودة البحر، وخفّة الريش.
عندما ترى البجع، بجسده الكبير، ومنقاره الطويل كأنّه سيفٌ من نورٍ باهت، قد تظنّ لوهلةٍ أنّه صيّاد شرس، كالنسر الجبليّ، أو كصقرٍ يحكم الفضاء. لكن الحقيقة لا. هو ليس كذلك أبدًا. لا يهاجم، لا يُفترس، ولا يمزّق ضحاياه بمخالب، فليس له مخالب أصلاً. هو صيّاد من نوعٍ آخر، هادئ، دقيق، وربما شاعر أيضًا في طريقته.
يعتمد على منقاره العجيب، ذلك الكيس العريض الذي يشبه مغرفة عملاقة مرنة، تهبط بسرعة على صفحة الماء ثمّ تلتقط سمكة صغيرة، تُرفرف، تقاوم، تحاول الإفلات. أحيانًا ينجح، وأحيانًا تسقط السمكة من بين أنيابه، كما تسقط فكرة جميلة من رأس كاتبٍ مشتّت. فيُعيد الكرة، دون غضب، دون ضجيج، كأنّه يقول: لا بأس، الحياة فرصة تتكرّر.
البجع لا يبحث عن الولائم، لا يطارد الغزلان، ولا يلتفت للفرائس الثقيلة. طعامه، غالبًا، هو الأسماك الصغيرة، الرشيقة، التي تنساب بين طيّات الماء كأنّها تهمس له بأن يلحق بها. وبعض البجع ينوّع قليلاً؛ يضيف إلى قائمته الضفادع هنا وهناك، وربما يرقات، وربما شيئًا من الطحالب إن ضاقت السبل، لكنّ السمك... السمك هو سيّده، هو عشقه الأول، وهو سرّ بقاءه.
هو لا يصطاد كالصقر، ولا ينقضّ كالعقاب. هو يغطس برأسه، لا بجسده، يختار طريقًا أقلّ عنفًا، وأكثر أناقة، ثمّ ينهض مبلولًا قليلًا، متخمًا قليلًا، لكنّ فيه وقار الماء، وبرودة البحر، وخفّة الريش.
موسم التكاثُر حين تبني البجعة عشّها
يأتي الربيع متثاقلًا أحيانًا، خجولًا كطفلٍ يطرق الباب لأوّل مرة. لكنّه حين يأتي فعلًا، تعرفه البجع فورًا. لا تحتاج إلى تقاويم أو نشرات الطقس. تشعر به في ريشها، في دفء الشمس، في تغيّر نبرة الريح فتبدأ حكايتها التي تتكرّر كل عام، لكنها لا تُشبه نفسها أبدًا.
يبدأ الذكر والأنثى رحلتهما العجيبة. لا يُطلقان الزغاريد، لا يرفعان الأعلام، فقط يبحثان بهدوء عن رقعةٍ قرب الماء، فيها طمأنينة، فيها عشب، فيها ظلّ. وهناك، دون هندسة أو مقاييس، يبنيان عشًّا صغيرًا، غريبًا، هشًّا في ظاهره لكنّه متين بما يكفي ليحتمل الحياة.
تضع الأنثى بيضها، وتحتضنه كما يُحضن الحُلم، كما تُخبّأ الأمنية من أعين العالم. لا تملّ، لا تشتكي من طول الوقت أو قسوته. فقط تبقى. وخلال هذه الفترة، يتحوّل الذكر إلى حارسٍ لا يرحم. يراقب. يحدّق. يقاتل إن لزم الأمر. لا يقترب أحد دون أن يواجه منقارًا جاهزًا للدفاع، لا عن البيض فقط، بل عن الحياة التي لم تولد بعد.
ثمّ... تنفلق القشرة. يخرج منها صغارٌ ضعاف، بعيونٍ خائفة، وريشٍ لم يجفّ بعد. لا يعرفون الطيران، لا يفهمون قوانين البقاء، لكنهم يعرفون أن البقاء يبدأ من حضن الأبوين. لا يبتعدون كثيرًا. يتعلّمون في صمت. يراقبون. يُجرّبون. يسقطون ويقومون. حتّى تأتي اللحظة التي يفتحون فيها أجنحتهم للمرّة الأولى... ثمّ يحلّقون.
يأتي الربيع متثاقلًا أحيانًا، خجولًا كطفلٍ يطرق الباب لأوّل مرة. لكنّه حين يأتي فعلًا، تعرفه البجع فورًا. لا تحتاج إلى تقاويم أو نشرات الطقس. تشعر به في ريشها، في دفء الشمس، في تغيّر نبرة الريح فتبدأ حكايتها التي تتكرّر كل عام، لكنها لا تُشبه نفسها أبدًا.
يبدأ الذكر والأنثى رحلتهما العجيبة. لا يُطلقان الزغاريد، لا يرفعان الأعلام، فقط يبحثان بهدوء عن رقعةٍ قرب الماء، فيها طمأنينة، فيها عشب، فيها ظلّ. وهناك، دون هندسة أو مقاييس، يبنيان عشًّا صغيرًا، غريبًا، هشًّا في ظاهره لكنّه متين بما يكفي ليحتمل الحياة.
تضع الأنثى بيضها، وتحتضنه كما يُحضن الحُلم، كما تُخبّأ الأمنية من أعين العالم. لا تملّ، لا تشتكي من طول الوقت أو قسوته. فقط تبقى. وخلال هذه الفترة، يتحوّل الذكر إلى حارسٍ لا يرحم. يراقب. يحدّق. يقاتل إن لزم الأمر. لا يقترب أحد دون أن يواجه منقارًا جاهزًا للدفاع، لا عن البيض فقط، بل عن الحياة التي لم تولد بعد.
ثمّ... تنفلق القشرة. يخرج منها صغارٌ ضعاف، بعيونٍ خائفة، وريشٍ لم يجفّ بعد. لا يعرفون الطيران، لا يفهمون قوانين البقاء، لكنهم يعرفون أن البقاء يبدأ من حضن الأبوين. لا يبتعدون كثيرًا. يتعلّمون في صمت. يراقبون. يُجرّبون. يسقطون ويقومون. حتّى تأتي اللحظة التي يفتحون فيها أجنحتهم للمرّة الأولى... ثمّ يحلّقون.
هل البجع مهدّد بالانقراض؟
ليس كلُّ البجع مهدّدًا، لا. فبعضه لا يزال يحلّق، يسبح، يتكاثر، كما لو أنّ الكون لم يتغيّر. ولكن ليس الكل. فهناك من الأنواع ما صار نادرًا، وما باتت رؤيته تُشبه حلمًا خفيفًا يمرّ في الصباح ثمّ يختفي. ثمّة بجعٌ تراجَع عددُه، تضاءلت أسرابه، وتبعثرت أعشاشه، كما تتبعثر الرسائل القديمة في مهبّ الريح.
السبب؟ ليس واحدًا، بل كأنّ الأرض كلها اتفقت على أن تُثقِل عليه. تغيّر المناخ، حرارة تشتدّ، مياه تتناقص، مواطن تختفي، وجوعٌ يأتي على مهل كما يأتي الليل على مدينة بلا قناديل. البحيرات التي كانت مرآته، باتت آسنةً أو ملوّثة، وأحيانًا بلا سمك. والناس، بعض الناس، لا يرحمون؛ يصطادون، يلوّثون، يسرقون من الطبيعة توازنها باسم التطوّر!
فما الحل؟ ليس سهلًا، لكنه ممكن. أن نحافظ على المستنقعات، أن نُنقّي البحيرات لا من الطين بل من الجشع، أن نمنح البجع ما يحتاجه كي يبقى... فقط ليبقى. ليس لأنّنا نريده طائرًا في خلفيّة صورة، أو زينةً على بطاقة سياحيّة. بل لأنّ في بقائه شيئًا من بقائنا، وفي غيابه ما يُشبه خسارة لونٍ من ألوان الحياة.
البجع ليس مجرّد طائر. هو كائن ينتمي إلى صفحة الماء، وصوت الريح، وهو أحد الشهود على جمال الأرض. فإن رحل، من سيشهد لنا لاحقًا؟
ليس كلُّ البجع مهدّدًا، لا. فبعضه لا يزال يحلّق، يسبح، يتكاثر، كما لو أنّ الكون لم يتغيّر. ولكن ليس الكل. فهناك من الأنواع ما صار نادرًا، وما باتت رؤيته تُشبه حلمًا خفيفًا يمرّ في الصباح ثمّ يختفي. ثمّة بجعٌ تراجَع عددُه، تضاءلت أسرابه، وتبعثرت أعشاشه، كما تتبعثر الرسائل القديمة في مهبّ الريح.
السبب؟ ليس واحدًا، بل كأنّ الأرض كلها اتفقت على أن تُثقِل عليه. تغيّر المناخ، حرارة تشتدّ، مياه تتناقص، مواطن تختفي، وجوعٌ يأتي على مهل كما يأتي الليل على مدينة بلا قناديل. البحيرات التي كانت مرآته، باتت آسنةً أو ملوّثة، وأحيانًا بلا سمك. والناس، بعض الناس، لا يرحمون؛ يصطادون، يلوّثون، يسرقون من الطبيعة توازنها باسم التطوّر!
فما الحل؟ ليس سهلًا، لكنه ممكن. أن نحافظ على المستنقعات، أن نُنقّي البحيرات لا من الطين بل من الجشع، أن نمنح البجع ما يحتاجه كي يبقى... فقط ليبقى. ليس لأنّنا نريده طائرًا في خلفيّة صورة، أو زينةً على بطاقة سياحيّة. بل لأنّ في بقائه شيئًا من بقائنا، وفي غيابه ما يُشبه خسارة لونٍ من ألوان الحياة.
البجع ليس مجرّد طائر. هو كائن ينتمي إلى صفحة الماء، وصوت الريح، وهو أحد الشهود على جمال الأرض. فإن رحل، من سيشهد لنا لاحقًا؟
هل يهاجر البجع؟ نعم، لكنه لا ينسى موطنه
نعم، البجع يهاجر. ولا يفعل ذلك على استحياء. بل يمدّ جناحيه الطويلين، ويدخل الغيم بلا تردّد. بعض أنواعه ترحل مع تغيّر الفصول، كأنّها تستمع لصوتٍ لا نسمعه، نداءٍ خفيّ يدفعها إلى الرحيل، لا لتغادر... بل لتبحث. عن دفءٍ مفقود، أو مياه أكثر صفاءً، أو ربما عن فسحة آمنة تبني فيها عشّها من جديد.
تحلّق لمسافاتٍ لا تُقاس بسهولة. تمضي في السماء أيامًا، وربّما ليالٍ. لا تشتكي. لا تتوقّف كثيرًا. وكأنّها تعيش الرحلة لا الوجهة. لكن ما يدهش، حقًا، أن البجع لا ينسى. مهما ابتعد، مهما دار، مهما تغيّرت التضاريس والسماء والرائحة... يعود.
يعود إلى موطنه الأوّل. إلى ذات البقعة. إلى نفس العشّ، أو إلى ظلّه القديم إن لم يبقَ له أثر. يعود وكأنّ في داخله بوصلة عاطفية، لا تُخطئ الاتجاه، حتى إن اختفى الطريق. لا يرتبك، لا يتردّد. كأنّ ذاكرته لا تتعلّق بالمكان فحسب، بل بالإحساس، بالدفء، بالأمان الذي شعرت به مرّة، ولن تنساه أبدًا.
إنّه يهاجر، نعم. لكنّه لا يهاجر ليهرب، بل ليعود أقرب. وليذكّرنا، نحن العابرين، أنّ الانتماء ليس عقد إيجار بل شيء يُحمل في القلب، ويُستعاد مع كلّ عودة.
في النهاية
ليس البجع مجرّد طائرٍ يُصادفك في فيلم وثائقي، أو تمرّ صورته بخفّة على شاشةٍ باردة. لا، هو أبعد من ذلك بكثير. هو قصيدة بيضاء تسبح فوق الماء، صوتٌ خافت لسكينةٍ ضاعت منّا في زحام المدن، ظلّ من نقاءٍ كنّا نملكه يومًا... ثم نسيْنا كيف نحتفظ به.
تراه يطفو برشاقة، لا يستعجل، لا يعترض، لا يُزعج العالم بصوته... فقط يكون. وهذا "الكون" البسيط الذي يمارسه، يربكنا. لأنّه يُذكّرنا بشيءٍ نحتاجه، ولا نعرف اسمه. ربما هو السلام؟ ربما التواضع؟ وربما هو تلك المسافة بين الهدوء والجمال حيث يقيم البجع دون ضجيج.
كلّما اقتربت من هذا الكائن، كلّما شعرت أنّ العالم، رغم كلّ قسوته، لا يزال فيه متّسعٌ للبياض. لمشهدٍ صامت، لطيف، يعبر دون أن يُحدِث فوضى. وربّما لهذا السبب بالتحديد نحتاجه.
فهل سبق لك أن تأملت بجعةً وهي تطير؟ أم أنك، مثل كثيرين، لم تُعطِ لهذا الطائر حقّه بعد؟
نعم، البجع يهاجر. ولا يفعل ذلك على استحياء. بل يمدّ جناحيه الطويلين، ويدخل الغيم بلا تردّد. بعض أنواعه ترحل مع تغيّر الفصول، كأنّها تستمع لصوتٍ لا نسمعه، نداءٍ خفيّ يدفعها إلى الرحيل، لا لتغادر... بل لتبحث. عن دفءٍ مفقود، أو مياه أكثر صفاءً، أو ربما عن فسحة آمنة تبني فيها عشّها من جديد.
تحلّق لمسافاتٍ لا تُقاس بسهولة. تمضي في السماء أيامًا، وربّما ليالٍ. لا تشتكي. لا تتوقّف كثيرًا. وكأنّها تعيش الرحلة لا الوجهة. لكن ما يدهش، حقًا، أن البجع لا ينسى. مهما ابتعد، مهما دار، مهما تغيّرت التضاريس والسماء والرائحة... يعود.
يعود إلى موطنه الأوّل. إلى ذات البقعة. إلى نفس العشّ، أو إلى ظلّه القديم إن لم يبقَ له أثر. يعود وكأنّ في داخله بوصلة عاطفية، لا تُخطئ الاتجاه، حتى إن اختفى الطريق. لا يرتبك، لا يتردّد. كأنّ ذاكرته لا تتعلّق بالمكان فحسب، بل بالإحساس، بالدفء، بالأمان الذي شعرت به مرّة، ولن تنساه أبدًا.
إنّه يهاجر، نعم. لكنّه لا يهاجر ليهرب، بل ليعود أقرب. وليذكّرنا، نحن العابرين، أنّ الانتماء ليس عقد إيجار بل شيء يُحمل في القلب، ويُستعاد مع كلّ عودة.
في النهاية
ليس البجع مجرّد طائرٍ يُصادفك في فيلم وثائقي، أو تمرّ صورته بخفّة على شاشةٍ باردة. لا، هو أبعد من ذلك بكثير. هو قصيدة بيضاء تسبح فوق الماء، صوتٌ خافت لسكينةٍ ضاعت منّا في زحام المدن، ظلّ من نقاءٍ كنّا نملكه يومًا... ثم نسيْنا كيف نحتفظ به.
تراه يطفو برشاقة، لا يستعجل، لا يعترض، لا يُزعج العالم بصوته... فقط يكون. وهذا "الكون" البسيط الذي يمارسه، يربكنا. لأنّه يُذكّرنا بشيءٍ نحتاجه، ولا نعرف اسمه. ربما هو السلام؟ ربما التواضع؟ وربما هو تلك المسافة بين الهدوء والجمال حيث يقيم البجع دون ضجيج.
كلّما اقتربت من هذا الكائن، كلّما شعرت أنّ العالم، رغم كلّ قسوته، لا يزال فيه متّسعٌ للبياض. لمشهدٍ صامت، لطيف، يعبر دون أن يُحدِث فوضى. وربّما لهذا السبب بالتحديد نحتاجه.
فهل سبق لك أن تأملت بجعةً وهي تطير؟ أم أنك، مثل كثيرين، لم تُعطِ لهذا الطائر حقّه بعد؟