معلومات حول الوشق

معلومات حول  الوشق
المؤلف عالم الحيوانات
تاريخ النشر
آخر تحديث

معلومات حول  الوشق





























    هل لمحته؟ ذاك الطيف الذي ينساب بين الظلال، كأنّه لا يدوس التراب، بل يمرّ فوقه برشاقة ساحرة؟ يلمع بريق عينيه فجأة بين الأغصان، كأنّه يراك دون أن يراك أحد، ثم يختفي! لا صوت، لا أثر، لا تلميح لوجود. كنت على الأرجح قد لمحت الوشق، ذاك الكائن الغريب الذي لا ينتمي تمامًا للعالم، ولا يرحل عنه أيضًا.

    الوشق؟ لا تظن للحظة أنه مجرد "قطة كبيرة". هو أبعد ما يكون عن ذلك. لا هو أسد، ولا هو نمر، ولا حتى من سنفونية القطط المنزلية المدللة. هو فصيلة وحده. كأنّه وُلد من فكرة الغموض ذاتها، من سكون الغابة، من حواف الحكايات القديمة. نصفه حلم، ونصفه فهد خفيّ.

    حين يتحرّك، لا تسمع خطاه. وحين ينظر، تشعر أنه يعلم شيئًا عنك لم تخبر به أحدًا. الوشق لا يعيش بيننا، بل يمرّ، يمرّ فقط، كأنّه يُذكّرك بأن هناك مخلوقات لم تُخلق لتُفهم، بل فقط لتُدهش.

الوشق من يكون؟ ولماذا يبدو دائمًا كأنه في مهمة سرية؟

    من هذا الكائن الذي يسير وكأن الغابة خُلقت لتخفيه؟ الوشق... ذاك الظل المتحرّك، الذي لا يُرى إلا حين يقرّر هو، ولا يُسمع إلا حين يريدك أن تسمع. شيء ما في شكله يوحي بأنّه ليس هنا بالصدفة. كما لو أنّه في مهمة لا نعرفها، وكأن لكل حركةٍ معنى خفيّ، ولكل نظرة رسالة مشفّرة.

    الوشق؟ لا، ليس مجرّد "قط بري". المصطلح نفسه يُسيء له. هو أكبر من قطة، وأذكى من ذئب، وأكثر غرابة من كليهما معًا. أذناه تنتهي بخيوطٍ سوداء كأنها هوائيات تلتقط ما لا نلتقطه، وعيناه؟ واسعة، ثاقبة، تخترقك. فيها شيء يربكك، يجعلك تتراجع، حتى لو لم يهاجم. وجهه عريض، جامد، كأنّه وُلد وهو يعلم ألا يثق بأحد.

    غالبًا ما يختار سكنه في مكان لا تصل إليه الضجة. غابة كثيفة، جبل صخري، وادٍ نائم. يفضل العزلة، لا لأنّه انطوائي، بل لأن العالم من حوله لا يثير فضوله كثيرًا. هو يرى البشر كضوضاء لا داعي لها. لا يهتم أن تراه. لا يُريدك أن تقترب. وإن اقتربت؟ لن تعرف إن كنت ضيفًا أم فريسة.

أين يعيش؟ وأين يختبئ؟

    الوشق لا يعيش في مكان، هو يذوب فيه. هو لا يُرى، بل يُحسّ. أنت تمشي بين الأشجار، تُقسم أن لا شيء حولك، ثم فجأة تشعر بأنك مراقَب... نعم، هو هناك. مستلقٍ فوق صخرة لا تميزها من بعيد، أو مندسّ في عشبة جامدة لا توحي بالحياة. لا يُصدر صوتًا، لا يهتز له جفن، فقط يراقب.

    هو لا يحب الأماكن العشوائية. يحب أن يرى ولا يُرى. يحب المرتفعات، تلك التي تمنحه نظرة بانورامية على الفوضى أسفل منه. الأشجار الطويلة، التلال الصخرية، حواف الهاويات. كلّها منصات مراقبة بالنسبة له.

    لا يتنقل كثيرًا، لكنه حين يفعل، لا يترك خلفه أثرًا. خطواته ناعمة كأن الأرض تعرفه ولا تريد فضحه. الوشق لا يمشي، بل ينساب. لا يتحرّك بلا سبب، كل حركة تشبه ضربة شطرنج. يخطط بصبر، يختار زاويته، ينتظر اللحظة... ثم يختفي كأن شيئًا لم يكن.

الوشق لا يصطاد من أجل المتعة بل يصطاد ليعيش.

    الوشق لا يصطاد ليُثبت شيئًا، ولا ليمارس هواية موروثة، بل لأن الجوع لا يرحم. الجوع هو القانون، والوشق لا يعرف قانونًا غيره.

    هو مفترس، نعم، لكن دون بهرجة ولا ضجيج. لا تراه يركض بجنون خلف قطيع. لا، هو فنان صبر، خبير ترقّب. يراقب الفريسة كما يراقب الرسام قماشته الفارغة، ثم يبدأ بالرسم... ولكن برياح صامتة، بنبض مدفون، بخطوات لا يسمعها أحد.

    حين يقترب، يكون كل شيء قد حُسم. اللحظة عنده ليست وليدة الصدفة، بل نتيجة هندسة صامتة. يقفز كما لو أن الأرض ترفض أن تُمسك به. عضلاته تُنفّذ أوامر لا صوت لها، وسرعته تخدع حتى الريح. الضربة؟ واحدة، واضحة، نهائية.

    فريسته؟ ليست مسألة شهية، بل توازن. أرنب مختبئ تحت جذع، غزال صغير نسي الحذر، طير ساهي فوق غصن منخفض... إن كانت في متناوله، فهي وجبته. وإن لم تكن؟ لا يُجازف. لا يركض عبثًا، لا يبدّد طاقته على فوضى خاسرة. الوشق لا يخطئ كثيرًا، لأن الخطأ مكلف. وفي حياته، لا مكان للهدر.

هل رأيت ابتسامة الوشق؟

    هل تعتقد أنك إن رأيت الوشق يبتسم، فقد فزت بشيء؟ بل العكس تمامًا... إن ظهرت أنيابه، فاعلم أن اللعبة انتهت، وأنك في منطقة لا رجوع منها.

    الوشق لا يوزّع الثقة مجانًا. لا ينتظر صداقات، ولا يفتح قلبه لحديث العابرين. هو كائن مفطور على الانعزال، لا يرى في الوحدة عقوبة، بل نعمة. يولد وحيدًا، يكبر وحيدًا، وحتى حين تقترب لحظات التزاوج، فهي لا تتعدى كونها مؤقتة، عابرة كحلم عند الفجر... بعدها كل شيء يتبخّر، كأن اللقاء لم يكن إلا صدفة بيولوجية لا أكثر.

    هو ليس عدوانيًا بطبعه، لكنه يعرف معنى التهديد. وإن أحس بالخطر، يتحوّل إلى كائن آخر... شعره ينتصب، نظرته تتغيّر، هديره يخرج من صدره كصفارة تحذير لا تُخطئ. هو لا يهاجم لمجرد الاندفاع، بل يمنح خصمه لحظة أخيرة: إما أن تتراجع... أو أن تتلقى ما لا يُنسى. وهنا تكمن خطورته الحقيقية. ليس لأنه يبدأ الحرب، بل لأنه ينهيها دون مقدمات.

هل يمكن تربية الوشق؟

    هل فكّرت يومًا أن تحتفظ بالوشق في بيتك؟ أن تجعله يجلس عند قدميك، ويلعب بكرة صوف مثل القطط؟ فكرة جميلة، من بعيد فقط. لكن حين تقترب تتحول إلى كابوس مغلّف بالفرو.

    الوشق، بكل مظهره الجذّاب وصمته الذي يخدع، لا يصلح للحياة بين الجدران. لا يفهم معنى “قف”، ولا يستوعب فكرة أن يُملى عليه كيف يعيش. هو ليس حيوانًا أليفًا، بل برّيٌ خالص، عنيد، لا يتغيّر مهما حاولت، ولا يذوب في الودّ ككلب أو قط. بداخله صحراء وجبل، رياح لا تُروّض، ونبض لا يعرف الطاعة.

    الذين جربوا؟ كثيرون. بعضهم بدأ بحماس، وانتهى بندم. خُدوش على الأذرع، أثاث ممزق، ومشاهد لا تُنسى. لأنه حين يشعر بالملل، يفتش عن مغامرة. وحين يغضب، لا يُخبرك بل يُهاجم. لا يمكن تدريبه، ولا يمكن التفاهم معه بلغة البشر. حريّته ليست خيارًا، بل شرط وجود. الوشق لا يُحبَس. حتى لو منحتَه قصراً من ذهب، سيبحث عن مخرج. وإن لم يجده؟ سيصنعه بنفسه... ولو كلفه ذلك كسر كل شيء حوله.

الوشق والليل

    الليل بالنّسبة للوشق ليس مجرّد وقتٍ لغياب الشمس، بل عالمٌ خاص، يُولد فيه من جديد. حين تسكن الأصوات وتخفت الحياة، يفتح عينيه، لا ليرى، بل ليبدأ. لا يحتاج لضوء، ولا لرفقة، ولا حتى لخطة واضحة... يكفيه الظل كي يصبح سيّد المكان.

    في العتمة، يتقدّم بهدوء، لا يُحدث صوتًا، لا يترك أثرًا. تمرّ بجانبه، وربّما تهمس لنفسك "لا أحد هنا"... بينما هو هناك، يراقبك بعينين تعرفان أكثر مما تتوقع. الليل لا يُخيف الوشق، لأنّهما توأمان في السر. كلاهما لا يحبّ الضوضاء، ولا الظهور، ولا الحشود. إنهما يعرفان أن القوة الحقيقية... في الخفاء.

    الليل بالنسبة له هو الحلف، الغطاء، الرفيق. فيه يتجوّل، فيه يُخطط، وفيه يُنقض كأنّه ظلّ انطلق فجأة من العدم. كل زاوية مظلمة في الغابة تعرف خطواته، كل صخرة حفظت عبوره، وكل عُشّ طائرٍ نام مطمئنًا، لم يكن يعلم أنّ الوشق قد اقترب ثم ابتعد... دون أن يُحرّك ورقة. إنه لا يعيش الليل... بل يصنعه على طريقته.

الوشق والإنسان

    الوشق والإنسان... قصة غير مكتوبة، لا تُقال في سطرين، ولا تُفهم بسهولة. نحن نمشي على هذه الأرض بثقة زائدة، نُصدر الضجيج، نُلوّث، نزرع الكاميرات في كل زاوية. أمّا هو، فيمشي كأنه لا يريد أن يُخلّف وراءه حتى نفسًا.

    الوشق لا يهتم بنا. نحن لسنا في جدول مواعيده، ولا في دائرة أولوياته. وجودنا لا يثير فضوله ولا يحرّك فيه رغبة التعارف. وإذا رأانا؟ يرجع للخلف، لا خوفًا... بل رفضًا. لا يريد التدخل في عالمٍ مليء بالصراعات التي لا يفهمها ولا يثق بها.

    ومع ذلك... هناك لحظات. لحظات نادرة، تكاد لا تُوصف. تصادف عينك نظرة من بعيد. من بين الأغصان، من خلف ظلّ صخرة. تتجمّد للحظة، لأنك تشعر أن هناك مَن ينظر إليك كما لو كان يقرأك. لا مشاعر، لا تهديد، لا تحية... فقط نظرة صافية، حادّة، كأنّها تمزّقك نصفين دون أن تلمسك.

    ثم، كما ظهر، يختفي. لا صوت، لا أثر، لا وداع. وكأنّ الطبيعة نفسها أرادت أن تقول لك: "كن حذرًا، فأنت لست وحدك هنا". الوشق لا يحتاج منا شيئًا، سوى أن نبتعد. احترامه لا يُطلب، ولا يُعطى... يُكتسب فقط حين لا نحاول الاقتراب.

ختاما

    نهاية؟ لا، لا توجد نهاية حين تتحدّث عن الوشق لأن الوشق ليس سطرًا يُغلق ولا قصة تُختتم. هو فكرة. هو شعورٌ عابر يُلامسك ثم يذوب. شيء يصعب شرحه، ويستحيل احتواؤه.

    الوشق، ذاك المتفرّد الذي لا يُشبه أحدًا، لا يسير خلف خطوات مَن سبقوه، بل يترك آثار مخالبه على تراب اختاره بنفسه. لا يتزلّف، لا يتجمّل، لا ينتظر من العالم تصفيقًا ولا حتى اعترافًا. هو يمضي، فحسب.

    ليس صديقًا، ولا خصمًا. ليس بطلًا، ولا ظلًا. هو في المنتصف، دائمًا. بين الضوء والظل، بين الحضور والغياب. وحين يظهر، لا يطلب إذنًا، ولا يعتذر. يمرّ بجانبك كما تمرّ النسمة: خفيفة، غريبة، لا تُمسَك.

    فإن صادفته. صدفة نادرة كتلك اللحظات التي لا تُنسى لا تفكّر أن تقترب. لا تُخرج هاتفك، لا تلهث خلف لقطة. فقط، ابقَ صامتًا. دعه يراك، أو لا يراك، لا يهم. دعه يمرّ. لأن ما شعرت به في تلك اللحظة، في تلك الرجفة العابرة داخل صدرك، هو الحقيقة الوحيدة التي يمنحها الوشق لأي إنسان. شيء لا يُشترى، ولا يُدرّس. شيء يشبه الحريّة.

تعليقات

عدد التعليقات : 0