معلومات حول الأناكوندا
ما إن تُلفَظ كلمة "أفعى"، حتى تتراقص في المخيّلة صورٌ مبلّلة بالرهبة، متّشحة بغلالة من الغموض، وربما شيء من القشعريرة. لكن، آه... حين يُقال الأناكوندا، لا، لا نتحدث هنا عن مجرد زاحف طويل متلوٍ يتسلل بين الأعشاب، بل عن شيء آخر تمامًا. عن كائن يشبه الطوفان، عن جسدٍ لزجٍ متماسكٍ يتمايل كأنه نهرٌ وُلد من صمت الغابات. هي ليست حيّة عادية، بل ظاهرة حادثة بيولوجيّة متربصة، تسكن الوحل وتستيقظ حين يخفت الصوت من حولها.
إنها الأناكوندا، ذلك الاسم الذي ما إن يُذكر، حتى تتشقّق جدران الخيال في رأسك، فتندلق منه الحكايات... حكاياتٌ لا تطلب منك أن تصدّقها، فقط أن تسمعها. من أساطير الغابات، وأغنيات الشعوب الأصلية، إلى صرخات مزيّفة في أفلام الغرب التي حاولت اختزالها في مخلوقٍ يلتهم الأبطال واحدًا تلو الآخر. ووسط هذا الهدير من القصص، من الصراخ والسينما والمبالغات، هناك، في عمق المستنقع، بين الطين والنبات، تقبع حقيقةٌ لا تصرخ، لكنها حاضرة تنتظر من يراها، لا من يصوّرها.
من تكون الأناكوندا؟
الأناكوندا، هذه الأفعى التي ما أن تنظر في عينيها إن استطعت أصلًا! حتى تشعر وكأنك تنظر في بئرٍ راكدٍ يحوي سرًا لا يبوح، تنتمي لما يُعرف بعائلة البوائيات. لا، لا تبحث عن أنياب تقطر سُمًّا هنا، فالأناكوندا لا تلجأ إلى السمّ، ولا تحتاجه أصلًا. السلاح؟ عضلات... عضلات مجنونة، غليظة، تُحيط بالضحية كما يلتف الليل حول مدينةٍ نائمة. ثم تبدأ الرقصة... رقصة الخنق التي لا تُخطئ.
العجيب، أو لنقل: المُفزع، أن الأنثى هي الأكبر، دائمًا تقريبًا. طولها؟ شيء لا يُقال بلا أن يُهضم أولًا. أكثر من ستة أمتار، أحيانًا سبعة، وربما أكثر، من يدري؟ ستة أمتار من اللحم المتوتّر، من الألياف الصامتة، من الموت الذي يمشي على بطنه، دون ضجّة.
وتخيّل... تخيّل هذا الكائن يتسلّل بهدوء وسط الطين، بين نباتات مائية كثيفة، لا صوت، لا زفير، فقط هذا الجسد اللزج الذي يعرف جيدًا ما يفعل. الأناكوندا لا تحب الشمس كثيرًا، ولا تهمّها الأرض الجافة، بل تُفضّل المستنقعات، تلك المياه التي بالكاد تتحرّك، هناك حيث يمكنها أن تختفي، حرفيًا، وتُبقي فقط جزءًا صغيرًا منها يطفو، يُراقب، يترصّد حتى تحين لحظة الانقضاض.
حياة في الظل والوحل
في الطين وفي الظلّ حيث لا يمرّ الضوء إلا نادرًا، هناك تختبئ الأناكوندا، لا لأنها تخشى، بل لأنها تُتقن فنّ الصمت القاتل. لا تبحث عنها في الأماكن المفتوحة، ولا في وضح النهار، فحياة الأناكوندا كُتبت بالحبر الرطب، حبر المستنقعات، حبر الصبر الطويل. إنها لا تلهث خلف فريستها، لا تجري، لا تثرثر، فقط تنتظر لساعاتٍ، ربما أطول مما يحتمل المنطق. عيناها نصف مغلقتين، لا تبدو مهتمة بشيء، لكنها ويا للعجب ترصد كلّ شيء. ضفدعٌ يقفز؟ مسكين. سمكةٌ تمرّ بمحاذاتها؟ ربّما حانت نهايتها. حتى غزالٌ صغير، إن أخطأ ووطأت حوافره الماء الخطأ، فـ السلام عليه.
ولا تسألها عن نوع الفريسة، فهي لا تُلقي بالًا لتصنيفات البشر. هل هو طائر؟ أم أربعة أقدام؟ لا فرق. المهم أن يكون حجمه معقولًا، وأن تلوح الفرصة... مجرد لحظة، تكفي لتحويل المياه الساكنة إلى مسرحٍ لرقصة الخنق المرعبة.
وإن كنت تظن أن الأناكوندا بطيئة أو ثقيلة الحركة لأن جسدها ضخم، فأنت مخطئ بل واهم. في الماء، تصبح شيئًا آخر. تتحرّك كأنها موجةٌ تحت الجلد، سبّاحةٌ بالفطرة، بل سبّاحةٌ شرسة. وما يزيد الأمر دهشةً، أنها تستطيع أن تغيب تحت سطح الماء، دون أن تأخذ نفسًا، لفترة طويلة... طويلة بما يكفي لجعلك تنسى أنها موجودة أصلًا. وما يبقى فوق الماء؟ فقط تلك العينان... عينان ثاقبتان، لا تغمضان، تترقّبان بصبرٍ شيطاني، لحظة الظهور، لحظة الإمساك.
سحرٌ أم خطر؟
هل هي لعنة الأدغال؟ أم مجرّد كائن جميل ساء فهمه؟ الأناكوندا... ذلك الزحف الذي يشبه الحكايات، وتارةً يشبه الكوابيس. كثيرون، وربّما عن جهل أو تهيّب، يرون في الأناكوندا مخلوقًا قادمًا من الأساطير، يتسلل خلسة تحت ستار الليل، يبتلع كل ما ينبض، ثم يختفي كأنّه لم يكن. مزيجٌ غريب من السحر والخطر، يخطف الأنفاس ويشعل المخيلة. غير أن الواقع، كعادته، لا يميل كثيرًا للدراما. فالعلماء، أولئك الذين يقتربون من الوحوش دون ارتجاف، يرون فيها كائنًا مذهلًا، آلة بيولوجية دقيقة تستحق التقدير، بل والانبهار.
والحقّ؟ أنها ليست ذاك الكائن المتوحّش الذي يُطارد البشر كما تُصوّره أفلام المغامرات الرخيصة. بالعكس تمامًا، الأناكوندا، في كثير من المرات، تفضّل الفرار، تتراجع، تنزلق مبتعدةً حين تشعر بالخطر. لا تبدأ المعركة إلا إذا لم تجد مفرًّا، وهذا نادر.
لكن، لا تخدع نفسك، فرغم ذلك، فكرة أن تقف وجهًا لوجه أو وجهًا لجسدٍ متلوٍ بطول خمسة أمتار ليست بشيءٍ عابر. لا يمكن وصفها إلا بأنها لحظة خارجة عن المنطق. مزيج من ذعرٍ لا يُفسَّر، وانبهارٍ يُجمّد الجسد. القلب يدقّ، لا، ليس يدقّ بل يطرق كطبول حرب. الوقت يتباطأ. والرؤية تصبح ضبابية.
فهل الأناكوندا سحرٌ؟ أم خطرٌ؟ لعلّها الاثنان، أو لعلّها شيء ثالث لا يُوصف، بل يُعاش.
تكاثرها قصة عجيبة
حين يهبّ موسم التزاوج، لا تسير الأمور بهدوء أو نظام كما قد تظن. لا، بل تشرع الطبيعة في كتابة فصل غريب، أقرب للعرض الصامت منه للحياة البرية العادية. أنثى الأناكوندا، ضخمة، ساكنة، يحيط بها عدد من الذكور... ليس ذكرًا واحدًا، ولا اثنين، بل أحيانًا حفنة متشابكة من الأجساد المتلوية! مشهدٌ فوضويّ، يُعرف بما يسمّى "كرة التزاوج". ولكنها ليست كرة للعب، بل حلبة صراع ناعم، يتسلل فيها كل ذكر ليجذب انتباه الملكة الصامتة.
لا عض، لا زئير، لا صراخ فقط أجساد تتحرّك فوق بعضها بعضًا، تلتفّ كأنّها عقد من الدخان الأخضر وكلّ واحدٍ يأمل أن يكون هو المختار. اللحظة التي تفوز فيها غريزة أحدهم، يبدأ شيءٌ أغرب في التكوّن.
فبعد هذا اللقاء الصامت، تبدأ أنثى الأناكوندا في حمل صغارها، لكنها لا تضع بيضًا كما تفعل معظم الزواحف. كلا. بل تلدهم أحياء! نعم، صغارًا يتلوّون كأرواح خرجت لتوّها من باطن الطين، مُستعدين للعالم القاسي دون أي تمهيد أو وداعٍ أمومي.
لا حضن، لا قبلة وداع، لا حتى نظرة خلفية. يولد الصغار ثم كلٌّ في طريقه. وحدهم. يتعلمون الزحف في البرك الموحلة، ويختبئون دون أن يعلّمهم أحد كيف. الغريزة تفعل كل شيء، كأنما الطبيعة نفسها تمسك بأيديهم ثم تُفلتهم في لحظة. وكأن الكون يقول لهم بصوت خفي: أهلًا بكم في الحياة... الآن، اختبئوا أو موتوا.
الأناكوندا في مواجهة البشر
حين تلتقي عينا الإنسان بعيني الأناكوندا... تبدأ الحكاية. لكنها للأسف، لا تنتهي دائمًا كما ينبغي. رغم ما تملكه هذه الأفعى من حضورٍ آسر، وقيمة لا يمكن إنكارها في نسيج الحياة البرية، هناك دائمًا من يراها بعين الريبة. بعين الخوف. بعين لا تفهم. البعض، وللأسف، لا يرون فيها سوى جلدٍ ثمين، أو خطرٍ محتمل يجب أن يُباد قبل أن "يتكاثر" أو "يهاجم" أو "يبتلع أحدهم". كلّها أوهام، أوهامٌ تتوارثها الألسن وتغذّيها الشاشات. ما ذنب هذه الأفعى؟ هل لأنها ضخمة؟ لأنها تختبئ في الماء؟ أم فقط لأنها تختلف عنا؟
الإنسان، في كثير من الأحيان، هو المعتدي. يدخل إلى الغابة، يلوّث الماء، يجفّف المستنقع، يقطع الأشجار ثم يصرخ حين يرى من بقي في الظلال. الأناكوندا لا تهجم عبثًا، ولا تخرج لتنتقم. هي فقط تحاول أن تبقى. أن تسبح. أن تلتفّ في طينها، وتراقب. لا أكثر.
لكن هذا العالم تغيّر. بات كل شيء يُحسب بمقاييس الإنسان فقط. كم نربح من هذا الجلد؟ كم مساحة نكسبها إن أزلنا المستنقع؟ قليلون من يتساءلون: ماذا سنخسر إن اختفت الأناكوندا؟ نحن بحاجة إلى نظرة أعمق، إلى وعيٍ لا ينهار أمام صورة مرعبة أو شائعة قديمة. الأناكوندا، رغم هيبتها، لا تبحث عن حرب. بل تحيا كما خُلقت: في صمتٍ طويل، وتوقٍ للاستمرار في عالمٍ لم يعد يرحم الكائنات التي تمشي على بطونها.
في الختام
حديثنا عن الأناكوندا لا يُختصر في بضعة أسطر، ولا يُختزل في وزنها أو طولها أو ما تفعله حين تجوع. هناك شيءٌ فيها يُشبه قصيدةً لا تُفهم من أول قراءة. شيءٌ هادئٌ، لكنه لا يُشبه الهدوء الذي نعرفه. شيءٌ مخيف، ولكنّه لا يتغذى على الخوف، بل على الفرصة... والسكوت.
هي ليست مجرّد أفعى، ولا مجرد كائنٍ يتلوّى في الظل. الأناكوندا، كما رأيتها أو كما تخيّلتها هي بقايا من عالمٍ كنّا ننتمي إليه قبل أن نضع حول أنفسنا الجدران والخرائط والضوء الصناعي. عالم فيه الغابة تتنفّس، والماء يُخفي، والعين لا ترى كل شيء.
هناك تحت السطح، خلف الأعشاب، بين الجذور العتيقة تنتظر. لا لتأكل، بل لتُذكّرك. بأن الأرض ليست ملكًا لأحد، وأن الصمت أحيانًا أصدق من ألف كلمة. فهل ستراها إن اقتربت؟ وهل ستفهمها؟ أم أنك، مثل كثيرين، ستُدير ظهرك وتركض، وتظلّ تحكي عنها كأنك عرفتها دون أن تجرؤ حقًا على النظر في عيني الأناكوندا؟
للمزيد من المعلومات حول الأفاعي ستجدها هنا